د.مصطفى حامد أوغلو - خاص ترك برس

تتعرض تركيا لموجة من الهجمات الارهابية بوتيرة متسارعة غير مسبوقة، لم تشهدها بهذه النوعية وهذاالانتشار في عقودها الأخيرة. زادت وتيرة هذه الاعتداءات وتنوعت في السنتين الاخيرتين حيث بلغت أكثر من35 عملية ارهابية ، ذهب ضحيتها أكثر من 500 مواطن تركي واجنبي وجرح أكثر 2000 شخص.

ثلاث منظمات تناوبت الهجوم على تركيا ،هي حزب العمال الكردستاني، وتنظيم داعش، وانضم لهم مؤخراً تنظيم الكيان الموازي الذي فشل بالانقلاب العسكري في الخامس عشر من تموز الماضي.وربما كان لهذا التنظيم أيضاً أدواراً خفية في كثير من الهجمات التي حدثت بالاعوام السابقة ،وسجلت ضد اسم مجهول ،لعدم القدرة على اكتشاف خيوطها بسبب سيطرة التنظيم على مفاصل كثيرة بالجهاز الأمني والقضائي.

تفجير رَينا في ليلة رأس السنة الميلادية لم يكن الأخير بين هذه الاعتداءات ،لكنه الحدث الذي ترك صدىً كبيراً ،ولازال حديث الكثيرين من السياسيين والأمنيين والصحفيين .لقد كان منذ اللحظات الأولى يحمل دلالات كثيرة على أنه عملاَ احترافياَ مخططاَ له من حيث التوقيت والمكان والشريحة المستهدفة .

لقد استهدف عمق السياحة التركية ،لتواجد عدد كبير من السواح الأجانب ومن مختلف الدول ، خاصة في هذه الأيام التي يعاني فيهاهذا القطاع من تراجعاً كبيراً .فاراد احداث صدى عالمي لتعدد جنسيات الضحايا، وضرب السياحة الشتوية ،ولثني كل من يفكر بالتعطيل صيفاً في هذه البلاد ،واشاعة عدم الاستقرار وفقدان الامن بكونه استطاع الوصول لهدفه رغم كل الاجراءات الأمنية.

استهداف شريحة من المجتمع التركي وهم يحتفلون برأس السنة في خضم نقاش حاد ، واصطفاف شديد، وانقسام مجتمعي جاء معمقاُ لشرخ هذا الاصطفاف والانقسام ،ومؤججاً لهذا النقاشات، حيث استغلها البعض للهجوم على منابر اعلامية دينية،والاحتجاج على خطب الجمعة لتناولها وتقييمها لهذه الاحتفالات من الناحية الدينية .حتى بعد اعتقال منفذ الجريمة تم التركيز على وصفه للضحايا بأنهم كفار وهذا مبرر لقتلهم حسب زعمه....

تركيا من أكثر البلاد الاسلامية حساسية تجاه هذه المسألة ،بسبب طبيعة الحزب الحاكم الذي طالما أُتهم بأنه خطر على الاقليات و على الحريات الشخصية وحرية اللباس وطريقة العيش، مما استدعى من هرم القيادة السياسية ان يدحض هذه الشبه في كل احاديثه وخطاباته ،ويؤكد تعهداته بأنه هو من سيكون حامي هذه الشريحة التي يريد البعض  استغلالها والصيد بالماء العكر.

بقاء منفذ الجريمة على قيد الحياة واختياره الهرب وعدم الانتحار، شكل انعطافة كبيرة وعلامة فارقة في هذه الجريمة،لنشوزها عن العمليات التي يقوم بها عناصر تنظيم داعش ،حيث الصفة الانتحارية واستخدام الحزام الناسف وموت المنفذ واسدال الستار على اسراره وحرمان الاجهزة الامنية من الامساك بخيوط الجريمة هي الصفة الغالبة لعملياتهم.

ايضا هذا اثار استنفاراً أمنياً، خشية من القادم وتحسباً لعملية اخرى أكثر ضجيجاً قد يقدم عليها،وحرصا على الامساك بالقاتل حياً لتتبع بقية عناصر الخلية وصولاً للعقل المدبر أو الجهة الراعية والمستفيدة من هذا الاستهداف.وهذا ماحصل على أرض الواقع من متابعة مكثفة وتضييق للخناق على المجرم حتى الامساك به باللحظة المناسبة بعد الامساك بخيوط كثيرة ومداهمة كثير من الأوكار وعشية عزمه الهروب من اسطنبول.

مما لاشك فيه أن تركيا بشكل عام والحكومة والاجهزة الامنية بشكل خاص، كانت بحاجة ماسة لمثل هذا النجاح ،وخاصىة في هذه الفترة الحرجة.حيث تزايدت وتيرة الهجمات ،وتولد شعور لدى المواطن بضعف الاستعدادات الامنية وتكرر الثغرات واتهامات الاستعجال بقتل وعدم الامساك حياً لقاتل السفير الروسي في أنقرة.

لقد كان إلقاء القبض حياً على القاتل وبدون اطلاق نار ومنعه ايضاً فرصة استخدامه للسلاح بمثابة اعادة الثقة والاطمئنان للاجهزة الامنية ،وشكل ارتياحاً لدى المواطن ورجل الامن على السواء...

كثيرة هي التحاليل التي أعقبت حادثة الاعتقال، تحاليل أمنية وسياسية ونفسية ،لماذا فضل القاتل البقاء حياً،وكيف لِمن قَتل بدم بارد العشرات أن يَضعُف انسانياً أمام عواطف اسرية، وكيف لمنفذ مثل هذه الجريمة ويعرف انه ملاحق أن يصطحب معه ابنه ذو الاربع سنيين!؟،هل هذا تناقض في نفسية القاتل وهل هي دليل على أنه مجرد قاتل مستأجر ولا يحمل المعتقد الديني الذي يجعل الشخص متلهفاً لمغادرة الدنيا والوصول للجنة.حيث لامكان للعواطف والتردد عند منفذي العمليات المؤدلجة وخاصة الدينية منها.

لماذا لم تتبنى داعش العمليات سابقاً وانتظرت لتسارع  هذه المرة بتبني هذه العملية ،هل هو بسبب عمليات درع الفرات ومحاولة لثني تركيا عن الاثخان بالتنظيم ،أم هو محاولة لصرف الانظار والبحث عن جهة اخرى وراء هذه العمليىة،وهل من سارع بهذا التبني هي القوة النافذة في التنظيم ولها ارتباطات مع اجهزة دول تخشى كشف الخيوط ومعرفة المستفيد والعقل المدبر لهذه الجريمة...؟

وزاد من هذه التساؤلات اصرار جهات حكومية وأمنية وصحفية على دور لأجهزة استخبارتية في هذه الجريمة رغم تبني تنظيم داعش لها....وتصريحات نائب رئيس الوزراء نعمان كورتلموش قبل يوم واحد من القاء القبض على المتهم أكبر دليل على هذا الشك والريبة وعدم الاقتناع  والاكتفاء بنظرية التبني الداعشي .

هناك من حاول الربط بين هذه الجريمة وتصريحات خالد عبود عضو مجلس الشعب السوري الذي صرح بتغلغل المخابرات السورية داخل تنظيم داعش ،وعزى عدم الاعتداء على دمشق بسبب هذه القوة النافذة والقادرة على توجيه التنظيم كما تريد. واشار بكل صراحة ان تركيا لا خلاص لها من هذه التفجيرات إلا بالتصالح وتحسين العلاقة مع النظام بدمشق ....

الملفت للنظر أن هناك كاتب تركي كبير ،كتب ايضاً بعد القاء القبض على منفذ رنيا، وبصريح العبارة أن تركيا لم تعد تملك اليوم الترف السياسي بالاصرارعلى المطالبة بازاحة الاسد أذا كانت تريد الخلاص من العمليات الارهابية......

لكن النقطة الأهم التي بدأت تأخذ نقاش ولوكان خجولاً وحذراً هي علاقة ايران بمنفذ الجريمة الذي وصل تركيا منها،وقد اعتقل بها لمدة شهر ...لماذا اعتقل .!؟وهل هرب من السجن..أم أخلي سبيله..!؟ ولماذا دخل تركيا بشكل غير شرعي ..!؟،أسئلة كثيرة واستفسارت كبيرة بدأت تدور حول هذه العلاقة المبهمة والغامضة ،وبدأ يتناولها كثير من المحلليين والكتاب والسياسيين.

تدرب منفذ العملية لفترة طويلة بمعسكرات في افغانستان،والقاصي والداني يعلم أن من يسيطر على كل معسكرات التدريب هناك جهازي استخبارات اثنيين لا ثالث لهما، الاستخبارات الامريكية والاستخبارات الايرانية، وما سواهما مجرد اجهزة تدور في فلك احد هذين الجهازين ......وهذا مايزيد الشكوك حول العلاقة مع ايران ..

فكيف لشخص تدرب كل هذه الفترة الطويلة في بلد مجاور لايران واعتقل لمدة شهر بها ولم تكتشفه اجهزة المخابرات هناك...!؟

في علم الجريمة مقولة "ابحث عن المستفيد" هي القاعدة الذهبية التي تدور حولها كل التحريات والشكوك ،و ليس المهم  المنفذ دائما بل العقل المدبر والجهة الراعية.....

وهذا ستكشفه التحقيقات الجارية مع عبدالقادرمشربوف منفذ الجريمة في هذه الايام ....

قد نعلمها وقد لا نعلمها...

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس