د. زبير خلف الله - خاص ترك برس

كل حدث أو أي تصرف يصدر من الآخرين لم يعجبنا يأخذ في البداية بعده الانطباعي الانفعالي ونرد وفق منظومتنا الشعورية ونغيب تماما الحسابات العقلية لحظة وقوع الحدث، وربما ندفع في اتجاه تصعيد التوتر واتخاذ مواقف قد يكون لها الأثر السلبي في المرحلة اللاحقة للحدث. وهذا الكلام لا ينطبق فقط علينا نحن كأشخاص وأفراد أو جماعات وإنما ينسحب أيضا على الدول ومواقفها واستراتيجياتها تجاه الدول الأخرى.

التصرف المشين الذي قامت به الحكومة الهولندية تجاه تركيا والحملة الشرسة التي تتعرض لها تركيا من وسائل إعلام غربية وتوتير الأوضاع بين الطرفين ما زال الى حد الان كحدث لم يتجاوز الأبعاد الانطباعية الانفعالية القائمة على إلقاء التهم بين الطرفين ، ويحاول كل طرف أن ينتصر الى مواقفه النابعة من مخزونه الثقافي والحضاري والقومي والديني.

وهنا يمكننا أن نتفهم ردة الفعل التركية والشعب التركي والشعوب الاسلامية تجاه هذه السلوكيات الهمجية التي قامت بها هولندا وبعض الدول الأوروبية. ولكن علينا أن لا نظل في حدود الرد الانفعالي الانطباعي الذي نغيب فيها الحسابات العقلية والاستراتيجية وطبيعة التوازنات الجيوستراتيجية التي تتحرك ضمنها تركيا كدولة خطت خطوات كبيرة، وحققت إنجازات كبرى لم يسبق لأي دولة إسلامية أخرى أن حققت مثلها، وحتى تستمر تركيا في مشروعها التنويري النهضوي التقدمي علينا ان نطرح السؤال التالي بكل عقلانية وواقعية:

هل من مصلحة تركيا توتير علاقاتها أكثر مع أوروبا في المرحلة الراهنة؟

للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نضع المحاور التالية نصب أعيننا حتى نبني عليها موقفا عقلانيا وواقعيا.

- علينا أن لا ننجر أبدا الى فخ يحاول أن يوقعنا فيه الأوروبيون وهو احتزال تركيا فقط في شخص السيد رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان لأن هذا الاختزال فيه تحويل للخلاف بين اوروبا وأردوغان فقط والحقيقة أن ماقامت به أوروبا هو إهانة وتعد صارخ على الشعب التركي وعلى الدولة التركية ككل.

- علينا أن لا نسقط على الأقل في المرحلة الراهنة في تحويل الخلاف بين تركيا وأوربا الى صراع ديني أو حضاري أو صراع بين كفار ومؤمنين لأن هذا من شأنه أن يعطل المشروع التغييري الذي تقوده تركيا وتقوده كل الشعوب الاسلامية التي تحاول أن تنهض من كبوتها.

- علينا أن لا ننسى أن في أوروبا توجد جاليات تركية واسلامية تعيش هناك ومندمجة ضمن المجتمعات الأوروبية، وتنشط في العديد من المجالات، وبالتالي نحتاج أن نحسب كل مواقفنا بعناية فائقة وبشكل عقلاني حتى لا نعرض هذه الجاليات الى الخطر أو إلى تهديد قد يصدر عن بعض القوى المتطرفة في المجتمعات الأوروبية.

- علينا أيضا أن لا نتجاهل أيضا أن تركيا عضو في حلف الشمال الأطلسي ولديها اتفاقيات استراتيجية وأمنية تحمي تركيا من أي تدخل أجنبي خصوصا أن تركيا توجد في موقع استراتجي متوتر على كافة المستويات وأن هناك قوى أخرى أيضا مثل إيران وروسيا باتت تنظر الى تركيا على أنها خطر مستقبلي وتحاول أن تستثمر الخلاف الأوروبي التركي حتى تضعف تركيا وتسحب البساط منها في منطقة الشرق الأوسط .

- علينا أن نذكر بأن حجم المعاملات الاقتصادية بين تركيا والدول الاوروبية تعد الأولى إذا ما قارناها بحجم التعاملات بين تركيا وبقية الدول الأخرى، وهذا أحد العوامل التي ساهمت بشكل كبير في تطوير البنية الإقتصادية لتركيا خلال العقدين الأخرين.

هذه العوامل التي ذكرناها سابقا ستجعلنا نعيد حساباتنا من جديد، وتدفعنا الى تجاوز المواقف الانفعالية الانطباعية الى رسم خارطة وعي جديدة للعلاقات التركية الاوروبية بشكل عقلاني وواقعي يخدم مصالح تركيا والأمة الإسلامية بشكل عام، وتفوت الفرصة على كل المتربصين بتركيا إلى عزلها دوليا ووضعها في الزاوية مثلما وقع الأمر مع روسيا التي اكتشفت تركيا أنها محتاجة الى العلاقات معها رغم اختلافها معها في وجهات النظر تجاه المسألة السورية ومنطقة الشرق الأوسط ككل.

إن أهم محرك يبني العلاقات بين الدول هو المصالح الاقتصادية على اعتبار أن الاقتصاد هو العامل الرئيس في تقوية الدول أو ضعفها، وهنا فإن تركيا كقوة اقتصادية صاعدة الان في المنطقة لديها عدة دول منافسة تسعى إلى إضعاف اقتصادها وإرجاعها الى دولة تنفذ سياسات الدول الاقتصادية الاخرى.

لم يعد خافيا أن هنالك دولا في المنطقة منها  في أوروبا والولايات المتحدة باتت تتوجس فعلا من هذا النمو الاقتصادي التركي في ظل أزمة عالمية اقتصادية تعصف باقتصاديات العديد من الدول التي تريد أن تستثمر حالة التوتر هذه بين تركيا وبعض الدول الاوروبية.

الدول الأوروبية نفسها يوجد صراع فيما بينها على تركيا، فهناك صراع بين ألمانيا وانجلترا وفرنسا وكل واحدة تريد أن يكون لها النفوذ الأقوى في التعامل مع تركيا والتحكم فيها اقتصاديا باعتبارها دول مهمة تتمتع بموقع استراتيجي مهم جدا بين القارة الأوروبية والقارة الآسيوية الغنية بالنفظ وبمختلف مصارد الطاقة.

إن العامل الاقتصادي في العلاقات التركية الأوروبية هو أهم عامل في طبيعة المعادلة والتوازنات الجيوبولتيكية في السياسية الدولية. ولذلك على تركيا ان تأخذ هذا العامل بعين الاعتبار.  ولا شك أن صناع القرار في تركيا يدركون هذا جيدا ولعل ردود الفعل التركية تجاه ما قامت به هولندا بدأ يتجه نحو العقلنة والتفكير بهدوء بدلا من ردود الفعل المتشنجة.

العامل الأساسي الآخر الذي لا يقل أهمية أيضا عن العامنل الاقتصادي هو العامل الأمني والاستراتيجي، فتركيا دولة تقع بين أوروبا وآسيا مما يجعلها محل تنافس استراتيجي بين الدول، وهي أيضا عضو في حلف الشمال الأطلسي، ولديها اتفاقيات دفاع أمنية واستراتيجية مع الاتحاد الاوروبي مما يجعل الدول الأوروبية ملزمة بالدفاع عن تركيا في حالة أي اعتداء تتعرض له تركيا من قبل دول أخرى. وهنا على صناع القرار الأتراك أن يستثمروا هذا لصالحهم، وأن لا ينجروا الى ردود انفعالية عاطفية تخدم مصالح بعض الدول الأخرى التي تريد توتير الأوضاع أكثر بين تركيا وأوربا خصوصا إيران والكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية حتى يتم عزل تركيا دوليا وإضعافها في مستوى علاقاتها الدولية وخصوصا الاقتصادية.

علينا أن نعترف أن تركيا هي الدولة الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط التي تتبنى مشروعا تغييريا لصالح العالم، وتسعى بكل إصرار إلى امتلاك عوامل القوة الاقتصادية والسياسية نحو إعادة تشكيل خارطة سياسية جديدة في العالم الشرق الأوسط خصوصا وفي العالم الإسلامي عموما، ولديها منافس كبير وهي إيران التي تمتلك مشروعا توسعيا وتعمل على الهيمنة على التحكم في العالم الاسلامي بمنطق مذهبي وطائفي متوحش ولا تعمل من أجل توحيد الأمة .

غير أن تركيا رغم نهوضها الاقتصادي والسياسي والنهضوي الا أنها مازالت الى حد الان لم تصل الى المستوى يمكنها من التحكم في كل المعادلات الموجودة في المنطقة وفي العديد من مناطق النفوذ في العالم، كما أنها مازالت لم تصل الى درجة الاكتفاء الذاتي في مقدراتها الاقتصادية والغذائية والطاقة الى غير ذلك. تركيا دولة تفتقد الى مصادر الطاقة ومراهنتها على ثروات النفط في منطقة الخليج العربي ليس بالسهولة بمكان على اعتبار أن هذه المنطقة هي محل صراعات دولية للحصول على ثورات النفط.

العامل الثالث الاخر هو وجود جاليات تركيا تقدر نسبتها بسبعة ملايين تقريبا تعيش في الدول الاوربية وتعد هذه الجاليات التركية إضافة الى بقية الجاليات الاسلامية الأخرى قوة ورصيدا بالنسبة الى تركية في عملية التمدد داخل القارة الاوروبية وبالتالي فإن زيادة توتير العلاقات بين تركيا وأوربا سيضعف هذه الورقة الاستراتيجية الرابحة و المهمة، وسيعرضها الى الخطر والى التهديد، وربما تجدها بعض الدول الاوروبية الحاقدة ذريعة الى إخراجها وإعادتها الى تركيا، وهذا ليس من صالح تركيا كدولة تطمح الى التوسع والسيطرة على منواطن النفوذ داخل أوروبا وربما الجاليات التركية والاسلامية ستساعدها على ذلك إذا حافظت تركيا على أمنها واستقرارها.

من جهة أخرى ليست كل الدول الأوروبية تفكر بنفس المنطق وبنفس الإيقاع تجاه تركيا، فهناك وجهات نظر مختلفة جدا بين هذه الدول المتنافسة فيما بينها. ولعل أهم مثال على ذلك هو الخلاف بين ألمانيا التي تريد أن تحكم كل أوروبا وبين انجلترا التي انسحبت من الاتحاد الاوروبي وتسعى الى تحسين علاقاتها مع تركيا ، وبالتالي فإن على تركيا أن لاتضع في علاقاتها كل الدول الأوروبية في سلة واحدة، وأن تفصل بين ما قامت هولندا وألمانيا والسويد والدانمارك عن مواقف انجلترا وبعض الدول الأوروبية الاخرى التي لا تريد أن توتر علاقاتها معها. والحقيقة أن هذا الخلاف الأوروبي الأوروبي تجاه تركيا سيضع هذه الأخيرة في موقف مريح يجعلها تتعامل بأريحية وبشكل براغماتي أفضل.

خلاصة القول إن ما قمنا بتحليله هو في الحقيقة جزء من صورة شاملة ومعقدة ومتشابكة اكثر لطبيعة العلاقات بين تركيا وأوروبا، وهو أيضا إجابة جزئية للسؤال الذي طرحناه في عنوان المقال : هل من مصلحة تركيا توتير العلاقات مع أوروبا؟.

ولعلي شخصيا أميل الى الجواب الكلاسيكسي المعهود وهو ليس من مصلحة تركيا توتير علاقاتها مع الأوروبيين، ويجب أن لا تنجر تركيا كدولة الى المواقف الشعبية المتشنجة، وأن تعقلن الأمور أكثر، وتعطي واقعية لحساباتها الاقتصادية والاستراتيجية والمستقبلية دون السقوط في ردود الفعل الشعبية التي لا تدرك مثل هذه الاكراهات والأبعاد العميقة.

على تركيا الدولة أن تنظر إلى المسألة من زاوية مختلفة وأن تدفع في اتجاه التخفيف من التوتر وتفويت الفرصة على لاعبيين إقليميين ودوليين آخرين يتبرصون بالتجربة التركية وبالمشروع النهضوي الذي تقوده تركيا الان، وان لا تنسف كل المكتسبات التي حققتها بسبب هذه الردود الشعبية المنفعلة .

بعبارة أخرى مازالت تركيا لم تصل الى القوة الكافية حتى توتر علاقاتها مع أوروبا لأنها بكل بساطة محاصرة من عدة جهات، وأن المرحلة الراهنة ليس في صالحها أن تفتح على نفسها جبهات متعددة من الناحية الشمالية وتفقعد عمقها الاستراتيجي في الضفة الغربية.

عن الكاتب

د. زبير خلف الله

كاتب - المركز العربي التركي للتفكير الحضاري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس