ترك برس

رأى الدكتور صالح عبد الجواد، أستاذ العلوم السياسية والتاريخ بجامعة بيرزيت، أن ملفّ تجنيد العرب من قِبل الأتراك في الجيش العثماني، يخضع كغيره من مواضيع التأريخ للعالم العربي خلال العهد العثماني - وقد استمرّ أربعة قرون وافية - لتنميطٍ مُشوَّه ومجموعة من السرديات والمقولات والتصورات المشوّشة والمبتورة.

وأوضح عبد الجواد، خلال مشاركته في برنامج للمركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسيات، أن الموضوع يتم عرضه ففي أغلب الأحيان على نحوٍ انتقائي مفصول عن السياق التاريخي الذي جرى فيه.

واعتبر أن المؤرخين القوميّين قاسُوا ظروف "سفر برلك" خلال الحرب العظمى - وهي ظروف استثنائية، شديدة القسوة وفق كلّ المعايير - بأثرٍ رجعيٍّ على مجمل الفترة التي سبقتها.

ورأى الباحث أنّ أغلب المؤرخين الذين عرفوا أنّ التجنيد لم يُفرض على السكان إلّا في مرحلة متأخرة من العهد العثماني – بهدف إنشاء جيوش نظامية على غرار الدول القومية الحديثة - اعتقدوا أنّ التجنيد طُبِّق وفقًا للمستوى نفسِه، والوتيرة نفسِها، أيضًا، منذ أن أعلنت الدولة العثمانية نظام التجنيد الإلزامي على السكان؛ بدءًا من عام 1839 حتى انتهاء العهد العثماني.

كذلك هو الأمر في الذاكرة الشعبية التي "شيطنت" التجنيد في العهد العثماني، ولا شك في أنّ موت كثير من المجندين في الحروب التي سبقت انهيار الدولة العثمانية وهزيمتها (البلقان، وليبيا، واليمن) كان وراء هذه الصورة السلبية القاتمة.

بيد أنّ هناك أسبابًا أخرى متعلقة بإعادة بناء ذاكرة التجنيد والحرب من الصفر، علي يد البريطانيين والتيار "القومي" الذي ساندهم، لتحلّ محلّها ذاكرةٌ بديلة، خصوصًا بعد أن وقع العالم العربي تحت حُكم استعماري كان أصحابه هم الذين نسجوا رواية المنتصر، وعمّموها، وفرضُوها.

تناول الباحث، أيضًا، تطور الإنكشاريين الذين كانوا في العهود الأولى للدولة العثمانية مقاتلين أشدَّاء، سمحوا لها بمدّ سيطرتها حتى أسوار فيينا؛ على نحوٍ أصبحت فيه كلمة "تركي"، لاحقًا، مرادفةً للقوة.

وفي مراحل أفول السلطنة، تحوّلت ملكية السلطان للإنكشارية إلى ملكية الإنكشارية للسلطان. وحينئذٍ دبّ الضعف والفساد فيها؛ كانعكاس لضعف الدولة نفسها، ما تُرجم بسلسلة من الهزائم والتراجعات التي مُنيت بها الدولة العثمانية في ميادين القتال على الأرض، وفي البحر مع القوى الأوروبية الصاعدة، وهو أمرٌ أجبرها على تقديم عدّة تنازلات.

دُفع السلطان سليم الثالث (1792-1806)؛ بسبب الوضع المتردّي للجيش والدولة، والهزائم المتتالية في ميادين القتال أمام القوى الأوروبية، إلى محاولة إصلاح الجيش وتطويره وبنائه، وفق النُظم الأوروبية الحديثة.

لكن فات هذا السلطان أنّ الخلل البنيوي في جسم الدولة كان أكبر من أن يسمح بإصلاح جذري ونوعي للجيش، من دون أن يصاحبه إصلاح عميق للمجتمع، وقد كان هذا الأمر واضحًا خلال معارك الجيش العثماني ضد القوات الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت، خلال حملته على مصر وفلسطين في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر، بل إنّه كان واضحًا حتى في مواجهة محمد علي أيضًا.

لقد كان قرار تجنيد المسلمين في البداية، ثمّ المسيحيين واليهود، متأخرًا، على عكس ما يُدَّعي في الروايات الوطنية، أو القومية، أو التواريخ الشفاهية. وحتى بعد أن أُعلن فرْض التجنيد أوّل مرة، عام 1839، على جميع الرعايا، بغضّ النظر عن طوائفهم وأعراقهم، فإنّ ضعف الجهاز البيروقراطي العثماني، قد سمح - كما هو الشأن في أمور أخرى - بالتهرّب والالتفاف والتحايل عليه من قِبل نسبة مهمة من السكان؛ ولذلك فإنّ تحويله من مرسوم سلطاني إلى واقعٍ أخذ فترةً زمنيةً طويلةً.

من الواضح، إذن، أنّ دافع التجنيد، وأقلّ منه عدم الرضا عن الوضع السياسي، هو سبب هامشي للهجرة السورية، مقارنةً بالسبب الاقتصادي وهو سببٌ تالٍ له على نحوٍ أساسي. ولا يحتاج المرء في إدراك ذلك إلى عناءٍ كبير؛ إذ بدأت الهجرة من فلسطين واستمرت، عدّة عقود، مسيحيةً حصرًا، قبل أن ينخرط فيها المسلمون، في وقت لم يتحوّل فيه التجنيد إلى عملية جِدّية وواقعية للمسيحيين قبل عام 1909.

وإنّ ما يهمنا في هذا السياق ليس موضوع الهجرة، بل ظاهرة عزوف الناس عن الانخراط في جيوشها الوطنية، وولعهم بالانخراط في الصراعات الداخلية، وهو ولعٌ يبدو أنّه متأصل فيهم. ولكن لا بدّ أن يثير ذلك سؤالًا حول قوّة الهوية الوطنية في مقابل الهويات الجهوية والطائفية.

ربّما يردّ قائل: "ما لنا وللعثمانيين حتى يحارب العرب معهم في الحرب العالمية الأولى. فهذا وطنهم وليس وطننا". وحتى إنْ صحّت هذه المقولة – وهي مقولة خاطئة - فكيف نُفسّر، على سبيل المثال، أنّ المجتمع الفلسطيني فشل فشلًا ذريعًا، أيضًا، في امتحان التعبئة والتجنيد لجزء مهمّ من قواه البشرية خلال نكبة 1948؟ (قارن ذلك بالييشوف).

فهل نستطيع الاستنتاج، إذن، أنّ العزوف التاريخي المتأصل عن المشاركة في دورة الحروب الوطنية متزاوجًا مع الصورة المشوّهة للتجنيد في العهد العثماني، ساهم في إبعاد الناس عن فكرة الدفاع عن وطنهم؟

بسبب الأوضاع الخاصة التي سادت في بلاد الشام (سورية، ولبنان، والأردن، وفلسطين)، بعد الحرب العالمية الأولى، تُمثّل الذاكرة المتعلقة بهذه الحرب حالةً متطرفةً لنجاح عملية تدميرٍ وإعادة بناءٍ منهجية لذاكرة جماعية شعبية. بمعنى آخر، تمّ محو الذاكرة الجماعية التي تشكّلت خلال الحرب، لإحلال ذاكرة أُخرى محلّها.

فهاتان الذاكرتان وقفتَا في حلبة صراع لا متكافئ؛ بالنظر إلى أنّ إحداهما امتلكت جميع أدوات السيطرة؛ السياسية والعسكرية، فضلًا عن التحكم في النص التاريخي، في حين لم تمتلك الأخرى سوى كلامها الشفهي الذي صار باهتًا، وآل أمره إلى الضياع مع مرور الأيام. وهكذا، فإنّ التاريخ يُعلّمنا - على الرغم من توقف تلك الحروب - أنّ الحروب على الذاكرة التاريخية ظلّت مستمرّةً.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!