
سليمان سيفي أوغون - يني شفق
وقع ما كان يُخشى حدوثه: شنت إسرائيل هجومًا عنيفًا ضد إيران، التي، رغم الخسائر الكبيرة التي تكبدتها، لم تتأخر في الردّ بما يوازي قدرتها العسكرية. يمكننا الآن القول بوضوح إن حربًا بين إسرائيل وإيران قد اندلعت، حتى وإن كانت مآلاتها ومدتها لا تزال غامضة. غير أن ما يستحق الانتباه حقًا هو تحليل هذا الحدث من جذوره، وتتبع مساراته المحتملة في سياق أوسع.
للاقتراب من فهم هذا الصراع، لا بد من العودة إلى أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، حين استُهدفت برجا التجارة العالمي في نيويورك. في أعقاب تلك الهجمات مباشرة، أعلن المحافظون الجدد في الولايات المتحدة "العقيدة العالمية"، التي كانت أخطر بنودها تتعلق بالشرق الأوسط، ضمن نطاق جغرافي يشمل السودان والصومال. النظر إلى هذا التوجه ضمن إطار قاري فقط لا يكفي؛ فالمسألة تتعلق بإعادة رسم السيطرة على شرايين الطاقة العالمية القائمة على تجارة الوقود الأحفوري المُسعّرة بالدولار، بدءًا من الخليج الفارسي والبحر الأحمر، مرورًا بليبيا، وصولًا إلى شرق المتوسط.
وبناء على ذلك، لم تكن السودان أو الصومال خارج إطار الخطة كما يُظن، بل كانتا جزءًا منها بفعل موقعهما الجغرافي. وفي ظل الهشاشة السكانية والثقافية، وضعف المؤسسات، والفقر المدقع في هاتين الدولتين، تم تفكيكهما في فترة وجيزة. أما المرحلة الثانية من الخطة، فاستهدفت الأنظمة البعثية الاستبدادية، التي كانت جميعها معادية لإسرائيل، وعلى رأسها العراق وسوريا.
بدأت الحملة العسكرية على العراق، وأدت حرب الخليج إلى سقوط نظام صدام حسين، وانقسم العراق إلى كيان هش متعدد الأجزاء، يعاني من اضطراب شديد. لاحقًا، اجتاحت موجة "الربيع العربي" دولًا مثل ليبيا وتونس ومصر، وسقطت أنظمة القذافي ومبارك وزين العابدين بن علي. صحيح أن زوال تلك الأنظمة منح في البداية شعورًا بالانفراج الديمقراطي، لكن ذلك سرعان ما انقلب إلى حالة من الفوضى والانتكاس.
كانت حركة الإخوان المسلمين هي القوة الأساسية التي حملت مشروع التحول الديمقراطي. لكن ذلك لم يكن إلا الفصل الأول من اللعبة؛ فالخطة كانت واضحة: فتح المجال الديمقراطي مرحليًّا، ثم سحقه لاحقًا عبر أنظمة استبدادية جديدة متوافقة مع المصالح الأمريكية. هذا السيناريو تجلّى بوضوح في كل من مصر وتونس.
كان تفكيك البنى القبلية يشكل المرحلة الأولى، بينما استهداف البنى الحزبية (البرلمانية) جاء في المرحلة الثانية. وقد تعثرت هذه الموجة طويلًا عند الساحة السورية، ما أفسح المجال لتدخل كل من روسيا وإيران.ويُعدّ تدخل روسيا ملفًا مستقلًا، أما دخول إيران، فقد تمّ عبر استغلالها للفراغ الناتج عن تعثر المشروع في سوريا، تحت عنوان "الهلال الشيعي". وقد سمحت الكتلة الأنغلوأمريكية بهذا التمدد إلى حدٍّ ما، لأنه أتاح لإسرائيل تبرير تسليحها ونفوذها بذريعة "التهديد الشيعي".
ومع الدعم الواسع من المحافظين الجدد، وتصاعد تطرف الحكومات الصهيونية، تحولت إسرائيل إلى قوة استعلائية تتحدى الجميع. المجازر التي ترتكبها في غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، والضربات ضد حزب الله في لبنان، والمسارات التي تستهدف إسقاط نظام الأسد، كلها نتاج هذا التوسع الوحشي وما يمكن تسميته بـ"سكر القوة". وقد بلغت هذه النزعة ذروتها في اندفاع إسرائيل نحو مواجهة مباشرة مع إيران.
لكن لا يمكن فهم المشهد الحالي بمعزل عن السياق العالمي الأوسع. فالشرق الأوسط ليس منفصلًا عن التوازنات الدولية، وتحليل الوقائع من خلال إسرائيل والفاعلين الإقليميين وحدهم سيبقى ناقصًا.
فمنذ بداية الألفية، ظهرت الصين كقوة عالمية صاعدة لا يمكن تجاهلها، وبدأت تمدّ نفوذها من خلال موانئ حيوية مثل ميناء جوادر في باكستان، وصولًا إلى دول الخليج العربي. وبدأت الصين تتقارب مع دول الخليج، لا سيما السعودية، في خطوات تهدد هيمنة الدولار على تجارة الطاقة، وهو تطور استراتيجي خطير بالنسبة للغرب.
أثارت الاتفاقيات الصينية-الإيرانية قلق الكتلة الأنغلوأمريكية التي تتبنى ذهنية المحافظين الجدد، فشرعت هذه الأخيرة في رسم خط استراتيجي عمودي من بحر البلطيق إلى جزيرة كريت، كان من نتائجه اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. هذا الخط كان مرتبطًا استراتيجيًا بإسرائيل، التي أقامت شراكات مع قبرص اليونانية واليونان، مع استبعاد تركيا عمدًا. كما وسعت إسرائيل علاقاتها في المحيط الهندي من خلال تحالفات تشمل الهند، ما أسفر عن محور جديد يمتد من البلطيق إلى الهند عبر إسرائيل واليونان — وكل ذلك في سياق واضح لاستبعاد الصين. (الخريطة التي عرضها نتنياهو في الأمم المتحدة جسّدت هذا المسار حرفيًا).
في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، ومجازر إسرائيل في غزة، لا ينبغي تجاهل حربين أخريين اندلعتا مؤخرًا. الأولى هي حرب أذربيجان وأرمينيا، التي شهدت دعمًا من تركيا وباكستان لأذربيجان، مقابل دعم من الهند واليونان لأرمينيا. المفارقة أن إسرائيل أيضًا ساندت أذربيجان بهدف تطويق إيران من الشمال، بينما دعمت إيران أرمينيا. هذا التموضع المعقد يعكس تباينات استراتيجية أوسع.
في وقت لاحق، اندلع صدام وجيز ومقلق بين الهند وباكستان، لكن بخلاف تعقيدات المشهد القوقازي، كان الاصطفاف هنا أوضح: إسرائيل واليونان وقفتا مع الهند، في حين دعمت تركيا وأذربيجان باكستان، بينما فضّلت إيران الحياد.
إن الهجوم الإسرائيلي على إيران يُنذر بسلسلة من التفاعلات التي قد تطال مباشرة كلًا من تركيا وباكستان، وقد تتوسع لتطال الصين وروسيا بطرق غير مباشرة.
يتبع...
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس