سليم الحكيمي - خاص ترك برس

عَنْون عالم النفس الفرنسي بوريس سيرولنيك كتابه "البؤس  الرائع" (Un merveilleux malheur). نشتق منه التسمية للحديث عن الأزمة المتواصلة في الخليج. فجزء من البؤس هو أحد تجليات أزمة التجزئة العربية لمجلس تعاون خليجي لم يرأب صدعه منذ سنة 1981، تاريخ تأسيسه، وبقيت الوجهة السياسية على غارب ذوق أسر ملكية حاكمة انتهت في قبضة الكماشة الأمريكية. تحلو المعركة لتكشف أنه لا توجد دولة سنية -عدا تركيا- واعية بمخاطر فساد ذات البين، وبالطبيعة الحضارية للغرب وبمخطاطاته في المنطقة وبمنطقه الاستعلائي. انتهت الغشامة بالعرب إلى تنفيذ مخططات التخريب بأيديهم وبنفطهم.

فراغ القوة الذي تركته أمريكا في المنطقة وسمح بالاختراق الروسي لسوريا وليبيا واليمن، هو فراغ القوة الذي تركته السعودية في العالم الإسلامي السني في منطقة تمثل قلب النزاع بين المشاريع الغربية والفارسية والصهيونية والمشروع الحضاري الإسلامي. ودون صراع على الزعامة للعالم الإسلامي، بدت تركيا الجاهزة نظريا ومعرفيا واقتصاديا وعسكريا هي من يسد ثغرة  فادحة الاتساع تركتها السعودية، الدولة السنية النفطية هائلة الإمكانات التي أضاعت حلفاءها السنة تباعا. ما يجري تزامن مع ثبات أركان "العدالة والتنمية" وشل "انقلاب تموز 2016" والعودة إلى أوج النهوض الاقتصادي رغم كل محاولات كسره في احداث التقسيم سنة 2013 التي كلفت خزينة الدولة 100 مليار دولار. ظهرت جاهزية تركيا منقطعة النظير واعية بأن للدول حدود جغرافيا وحدود أمن، وهو ما فسر تدخلها في العراق وسوريا واستعدادها للتدخل في قطر، ليس للاختراق والاستعمار بل لتعديل جدلية الحق والقوة ولعب دور طبيعي حضاري كانت تلعبه في الماضي حين حكمت السلطنة العثمانية. فروسيا لم تنس أحقادها ولكن تركيا لم تنس أمجادها، وفرق بين استعادة المجد والحقد.

رغبة أردوغان في حل القضية قبل نهاية شهر رمضان، تعكس وعي تركيا الحاد بأن خراب البيت الخليجي يضر بالعالم العربي الإسلامي وبالمصالح التركية ويحلب نهاية في إناء أمريكا والغرب المسيحي –الصهيوني وإيران ذات المشروع الطائفي. والموقف في عمقه نابع من مضاء درس للسياسة الأمريكية ودولة "الجباية الدولية" التي تبتز الجميع، فـ"ترامب" ليس إلا استكمالا لا لمشروع "أاوباما" في المنطقة الذي يوهم الخليجيين أن الانسحاب الأمريكي يجعلهم  في خطر كما أوهموهم سنة 1990 بأن القوات العراقية على حدودهم وجاؤوهم بخرائط طبوغرافية وهمية، وهو ما ورد في شهادة في مذكرات "مادلين أولبرايت" بقولها: "هكذا خدع الأمريكان السعوديين وأجبروهم على الاستعانة بهم". الأزمة لم تسبقها إرهاصات وكان القرار الخليجي مفاجئا، مما يدل على أن 80% من الموقف هو بإملاءات أمريكية صهيونية. ما ثبت أنه كلما ارتفع خوف الخلجيين من إيران إلا وصبّ في مصلحة إسرائيل. والموقف التركي العاقل في جوهره دفاع عن وحدة الصف الخليجي وليس عن قطر. ولم تنحو فيه تركيا إلى استفزاز الأطراف الخليجية. الحدث كان فيه الفجور في الخصومة وغابت فيه القيم، وهو ما جعل الرئيس أردوغان يصرح بأن حصار قطر مخالف للقيم الإسلامية. وسارع على المستوى الإنساني بإرسال مساعدات، والعسكري بالإمداد  ليس ترجيحا لكفة قطر بل تجميدا للموقف قبل تطور ورم الفتنة  فيه، وهو في عمقه في مصلحة السعودية قبل قطر ولحماية الدول الخليجية من تهورها ضد بعضها ولجوء قطر الكلي إلى إيران المتأهبة للتوغل في الخليج، ومن خطر ما وقع في مساسه برمزية السعودية في علاقتها بالمقدسات. و"حماس" رأس الحربة في الدفاع عنها وهي الحركة الممانعة لحقيقية، والتخلي عنها خيانة لعدالة القضية الفلسطينية ومسرى النبي. فمحمد نبي رحلة الإسراء وغار حراء. 

ثبت أن العالم العربي لم يكن يحتاج إلا رجّة قبل الربيع العربي سنة 2011، وجاءت الثورة من تونس، فتداعى الكيان الاستبدادي السلطوي العربي الفاقد لمبررات وجوده أصلا في مصر وليبيا واليمن وسوريا... ويثبت التاريخ بلا ريب أن العالم الإسلامي لا يحتاج إلا تحالفا ثنائيا إقليميا حقيقيا، حلفَ السراء والضراء، يكسر شوكة كل متآمر، وحضنا مستوعبا للشتات الإسلامي ضد الحصار الغربي والعرب المتصهينين.

كتب عمر بن عبد العزيز عندما كان  والٍيا  على المدينة إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك منددا بسياسات زميله الحجّاج ومظالمه في العراق. ولم ينس له الحجاج ذلك، وبدأ يخطط للانتقام منه وعزله عن ولاية المدينة. فوشى إلى الخليفة بأن عمر جعل الحجاز ملاذًا "للإرهابيين" المتمردين على الخلافة. فعزله الخليفة، رغم أن الحقيقة أن من آواهم عمر كانوا فارين من ظلم الحجاج وجبروته ولم تكن لهم خصومة مع مركز الخلافة أو نية التمرد عليه.

قياسا عليه، مناهضو الصهاينة من حماس، والمعارضون السياسيون في قطر ليسوا ضد السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي بل فارين بجلدهم من ظلم أنظمة القهر والجبر والعسكر في مصر وغيرها... واتهام قطر بإيواء الإرهاب نسخة من تهمة الحجّاج لعُمر. ورد في سيرة ابن عبد الحكم عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان رافضا لتوجهات الولاة الذين عينهم الوليد بن عبد الملك، وكان يقول: "الوليد بالشام والحجّاج بالعراق، ومحمد بن يوسف ـ أخ الحجّاج ـ في اليمن، وعثمان بن حيان بالحجاز، وقرة بن شُريْك في مصر، امتلأت والله الأرض جوراً".

ونحن نردد: "السفاح بشار بسوريا، دونالد ترامب بأمريكا، وبوتين بروسيا، والسّيسي بمصر، وقاسم سليماني بالعراق، وصالح باليمن... امتلات والله الأرض جورا".

تحلو الخصومة رغم بؤسها، فيشتد وتر قوس الوعي، ليفرّق الناس بين خيل الغزاة والطغاة وبين رواحل الحجيج.

عن الكاتب

سليم الحكيمي

صحفي تونسي متخصص في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس