سمير صالحة - المدن

التحقت تركيا بحلف شمال الأطلسي عام 1952 بعد منظومة التحالفات العسكرية والسياسية الإقليمية والدولية التي قادت إليها الحرب العالمية الثانية. أنقرة اختارت المحور الغربي حليفا وشريكا خلال الحرب الباردة وبسبب التهديدات والأطماع الروسية المتواصلة في مناطقها الجغرافية الحدودية وتحديدا في البحر الأسود والمضائق التركية الاستراتيجية. الأتراك أعلنوا عن رغبتهم في إنجاز أكثر من ذلك عام 1959 عندما قرروا الالتحاق بالسوق الأوروبية المشتركة التي ما زالت حلما وحبرا على ورق حتى اليوم. خيبة الأمل التركية في مسار العلاقات التركية الأمريكية كانت عام 2003 عندما تخلت أنقرة عن حليفها الأمريكي في الحرب على العراق. تبادل اللكمات تحول إلى قتال شرس مع الوقت خصوصا في العامين الأخيرين بسبب تباعد في أكثر من ملف ثنائي وإقليمي يغير تدريجيا من طبيعة التحالفات التركية الأمريكية والتركية الأوروبية.

أسفر التقارب التركي الروسي وعشرات اللقاءات التي عقدت في العامين الأخيرين في السر والعلن عن ولادة برنامج تعاون وتنسيق سياسي وعسكري واستراتيجي ثنائي وإقليمي يسدل الستار على حادثة إسقاط مقاتلة الطيار الروسي فوق المتوسط والإعلان عن ولادة حقبة جديدة من العلاقات تكللت بدخول صفقة شراء منظومة صواريخ "إس 400" الدفاعية الروسية البعيدة المدى حيز التنفيذ.

خيبة امل كبيرة تعيشها العديد من الدول الغربية والإقليمية نتيجة هذا الإنجاز، وعلى رأسها أمريكا وعواصم حلف شمال الأطلسي التي نجحت قبل 3 أعوام في تعطيل خطوة من هذا النوع بين أنقرة وبكين، وحاولت أن تغري تركيا بأن منظومات الباتريوت تحت تصرفها متى تشاء ولا حاجة لإنفاق عسكري باهظ من هذا النوع. القيادة التركية أكدت لحلفائها في الغرب من خلال مجازفة استراتيجية من هذا النوع أنها جاهزة لدفع ثمن قرارها هذا وإثبات أنها ليست مجرد مناورة سياسية أو عملية ابتزاز لأحد، تركيا تحتاج في منظومتها الدفاعية لسد فراغ عسكري مهم من هذا النوع، وفرنسا وإيطاليا وألمانيا لم تأخذ العروض التركية على محمل الجد، وواشنطن راهنت على استحالة إقدام أنقرة على خطوة انتحارية من هذا النوع.

ما سيغضب واشنطن والكثير من العواصم الأوروبية وإسرائيل تحديدا ليس امتلاك تركيا لورقة قلب التوازنات العسكرية الصاروخية لصالحها في المنطقة وخروجها من وضعية بين المطرقة الأطلسية والسندان الأوروبي بل حقيقة أن خطوة من هذا النوع هي أبعد من أن تكون مجرد إنجاز عسكري بل تقارب تركي روسي متعدد الجوانب ومنح أنقرة فرصة دق إسفين في مسار العلاقات التركية الأطلسية واحتمالات سحب الكثير من الأوراق التركية الاستراتيجية الإقليمية من أيديهم وعلى رأسها ملفات المضائق التركية والصراع على حوض البحر الأسود وحروب خطط نقل الطاقة ناهيك عن ملفات أمنية وسياسية وتجارية كثيرة في المنطقة.

الأتراك يقولون إنه قرار سيادي يتعلق مباشرة بسياسة تركيا الدفاعية لكنهم يعرفون جيدا أن الثمن الذي سيدفعونه سيكون حرمانهم الكثير من برامج التخطيط الدفاعي الأطلسي، وإخراجهم من منظومات عسكرية سرية بينها أنظمة الرادارات والأقمار الاصطناعية الغربية، ومنظومة الإنذار المبكر، في المقابل تركيا ستتحرر في سياستها التسلحية أكثر فأكثر من القيود الغربية وستمتلك للمرة الأولى نظاماً صاروخياً في مواجهة الصواريخ البالستية، وستتخلى إلى حد كبير عن خدمات مقاتلات "إف 16" الأمريكية لكنها في صفقتها مع موسكو ستكون قد امتلكت فرصة المشاركة إلى حد ما في تصنيع وإنتاج هذه الصواريخ في ترساناتها الحربية.

الصفقة تعني في أقل تقدير فشل شركاء الأطلسي في لعب ورقة المادة الخامسة من اتفاقية الحلف حول إلزامية الشراكة ونجاح تركيا في التهديد بإنهاء حكاية غرام بلباس عسكري بدأت قبل 60 عاما بين تركيا والغرب وكان العداء للمحور الروسي مركز الثقل فيها.

تركيا منحت الروس اليوم فرصة الاختراق العسكري إلى قلب النظم الأطلسية، وحظوظ إشعال أزمات تركية أمريكية أمنية وسياسية وكذلك تعزيز التقارب والتنسيق في مسائل يتقدمها الملفان السوري والأوكراني إلى جانب عقود تجارية إنمائية استراتيجية مثل بناء خطوط الطاقة العابرة للقارات. الهدف الروسي التركي غير المعلن الآن قد يكون على ضوء التوتر التركي الأوروبي المتزايد وضع ملف عضوية تركيا في منظمة شنغهاي الآسيوية على طاولة الحوار بدلا من الحلم التركي بالاتحاد الأوروبي.

واشنطن تعرف جيدا حجم دورها في إنجاز هذه الصفقة التركية الروسية فهي التي تمسكت بقطع الطريق على السياسة التركية في سوريا والعراق ودعمت ميليشيات قوات سوريا الديمقراطية وقررت رفع مستوى التنسيق إلى ما بعد معركة الرقة ليشمل دير الزور والبادية وشمال غرب سوريا لاحقا. وهي التي رفضت الاستجابة للطلب التركي بتسليم فتح الله غولن المتهم الأول بالمحاولة الانقلابية الأخيرة في تركيا مما دفع الإعلام التركي للحديث عن تنسيق بين أجهزة الاستخبارات الأمريكية وجماعة الكيان الموازي في استهداف تركيا، وهي التي تحاول محاصرة حكومة أردوغان في الداخل والخارج خصوصا بعد الحملة الأخيرة التي شنها القضاء الأمريكي على العديد من الشخصيات السياسية والمالية التركية بتهمة انتهاك قوانين الحظر الاقتصادي المفروض على إيران والتي أعقبها قرارات قضائية أخرى بتوقيف مجموعة من فريق الحماية الشخصية للرئيس التركي بتهمة المشاركة في الاعتداء على مجموعة من المتظاهرين في شهر أيار/ مايو الماضي خلال تجمع احتجاجي أثناء تواجد أردوغان في البيت الأبيض. قرارات أغضبت أنقرة ودفعت أردوغان لاعتبارها حربا غير معلنة على تركيا وقرار القمة الأمريكية التركية المرتقب على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك، ربما يكون أكثر من تسجيل لقرار الطلاق بين البلدين.

صفقة الصواريخ الروسية الاستراتجية الموقعة بين أنقرة وموسكو أغضبت واشنطن حتما، لكن  تقارير الاستخبارات التركية تقول إنه ومنذ مطلع شهر حزيران/ يونيو الماضي وحتى اليوم بلغ عدد الشاحنات الأمريكية المحملة بالسلاح والعتاد إلى قوات سوريا الديمقراطية 1350 شاحنة.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس