بشير عبد الفتاح - الجزيرة نت

ثقيل هو إرث الخلافات التركية الروسية الممتد منذ عهد نزاعات روسيا القيصرية وتركيا العثمانية، مرورا بصراعات الحرب الباردة، التي كانت خلالها الجمهورية التركية جبهة صد أمامية في مواجهة المد الشيوعي السوفياتي، وصولا إلى تصادم طموحات تركيا "الأردوغانية" مع تطلعات روسيا "البوتينية" في مواضيع شتى.

ويبرز ذلك في مواضع شتى ابتداء من سوريا، التي يعتبر بوتين رئيسها الأسد منتخبا يتعين استبقاؤه، فيما لا يرى أردوغان حلا لأزمتها سوى الإطاحة به وعدم الاعتراف بانتخاباته الشكلية الهزلية، علما بأن تركيا -حسب ما يرى- تدفع ضريبة المجازر التي ارتكبها الأسد ضد شعبه بعد أن أضحت قبلة لمئات الآلاف من اللاجئين السوريين، وانتهاء بالأزمة الأوكرانية، حيث عارض أردوغان قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية هذا العام، معربا عن قلقه بشأن تعرض أقلية التتار التركية في القرم للاضطهاد من قبل سلطاته الجديدة الموالية للكرملين.

الاقتصاد والسياسة

أفضت مغانم اقتصادية ملحة يرنو إليها كلا الطرفين التركي والروسي -في وقت أمست اقتصاداتهما أسيرة ركود ملفت جراء الاضطرابات الإقليمية وما استتبعته من سياسات دولية تصعيدية احترازية وعقابية، فيما تلبد الغيوم سماء علاقاتهما بواشنطن- إلى حمل أردوغان وبوتين على تقريب وجهات نظرهما السياسية حيال القضايا الخلافية البينية توخيا لتحصيل تلك المغانم الاقتصادية الحيوية ودرءا لأية منغصات غربية.

ولما كانت روسيا تعد الشريك التجاري الأول لتركيا، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نهاية عام 2013، قرابة 35 مليار دولار، وقع أردوغان مع نظيره الروسي إبان زيارة الأخير لتركيا اتفاقات تجارية إن تم الإسراع في تنفيذها وتفعيلها -حسبما اتفق الزعيمان- أن يرفع حجم التبادل التجاري بين بلديهما إلى مائة مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة.

ومن جانبها تسعى روسيا للاستفادة من النهم التركي لأسواقها ومصادر الطاقة الهائلة بحوزتها أملا في تقليص الآثار الاقتصادية السلبية للعقوبات الغربية المفروضة على موسكو بجريرة الأزمة الأوكرانية فضلا عن تراجع أسعار النفط، ولا سيما أن لتركيا -التي تولت مؤخرا رئاسة مجموعة العشرين للمرة الأولى في تاريخها- خبرة فريدة في الاستفادة من العقوبات المفروضة على دول جوار كإيران وروسيا ومن قبل ذلك إبان الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988). 

ولذا أنهت روسيا حظرا كانت قد فرضته على استيراد منتجات زراعية تركية وتخفيضا كانت قد أقرته لأعداد سائحيها إلى تركيا، وأعلنت فتح الباب على مصراعيه أمام السياحة والتجارة مع تركيا مع استبدال عملتيهما الوطنيتين الليرة والروبل بالدولار الأميركي.

وعلاوة على ذلك تتطلع الدولتان لتعزيز تعاونهما في قطاع الفضاء، من خلال تدريب روسيا رواد فضاء أتراك والإعداد لإطلاق قمر اصطناعي تركي. وبينما ترنو تركيا إلى إقامة عدد من المحطات النووية بدعم روسي، أعلنت وزارة البيئة التركية موافقتها النهائية على مشروع شركة "روس آتوم" الروسية المكلّفة بتشييد مفاعل أكويو النووي في جنوب تركيا، بتكلفة عشرين مليار دولار، كما تسعى إلى الفوز بعقد لتشييد مفاعلين آخرين، في الوقت الذى يدرس مائة مبتعث تركي التكنولوجيا النووية في روسيا.

على الجانب الآخر يعد التعاون الاقتصادي بين موسكو وأنقرة بمثابة طوق نجاة للاقتصاد التركي الذي أضحى أسيرا للركود، بسبب عزلة أنقرة سياسيا في المنطقة العربية مؤخرا على خلفية التداعيات السلبية للثورات العربية والحرب على "داعش" (تنظيم الدولة الإسلامية).

وفى مجال الطاقة تتطلع تركيا إلى تحقيق عدة أهداف، أبرزها:

- حصول تركيا على ما بين ستين وسبعين في المائة من مواردها في مجال الطاقة من روسيا، المصدر الأول للغاز على مستوى العالم، وتسعى أنقرة إلى مضاعفة تلك الواردات خاصة مع اقتراب فصل الشتاء وتفاقم الطلب المحلى التركي لقرابة اثنين وعشرين ضعفا. وبدوره، أعلن الرئيس الروسي في أنقرة استعداد بلاده لزيادة حصة تركيا من الغاز الروسي بواقع 16 إلى 19 مليار متر مكعب وخفض أسعاره بنسبة 6% مع بداية العام المقبل.

- تنشد تركيا توظيف موقعها الجيوإستراتيجى في لعب دور الممر اللوجيستي الآمن لنقل النفط والغاز من روسيا إلى أوروبا عبر المشاركة في مشروع "ساوث ستريم" الذي تشرف على إنشائه شركة "غاز بروم" الروسية بتكلفة أربعين مليار دولار بحيث ينقل الغاز من روسيا إلى جنوب أوروبا مرورا بالأراضي التركية والبلغارية.

غير أن المشروع الذى كان من المقرر أن يبدأ بضخ الغاز العام المقبل قد تعطل بعدما أعلن بوتين تجميده من أنقرة جراء العقوبات الغربية على روسيا بسبب أزمة أوكرانيا، علاوة على الضغوط التي يمارسها الاتحاد الأوروبي على بلغاريا لحملها على رفض المشاركة في المشروع، إضافة إلى سعى الأوروبيين لتقليص اعتمادهم على الغاز الروسي.

نقاط تلاق

رغم خلافاتهما التي تبلغ حد التناقض في قضايا وملفات عديدة، اضطرت كل من موسكو وأنقرة إلى البحث عن نقاط تلاق تؤسس بدورها لمصالح مشتركة بين الجانبين مستقبلا، بوازع من معطيات شتى:

أولها: حالة الاعتماد الاقتصادي الاضطراري المتبادل بين البلدين، والتي فرضتها معطيات جيوإستراتيجية وعززتها تحديات سياسية وأمنية باتت تلقي بظلالها على كليهما خلال الآونة الأخيرة.

ثانيها: التوتر الذي طال علاقة كل منهما بواشنطن مؤخرا. ففي حين اهتزت الثقة بين أردوغان وأوباما على خلفية الأزمة السورية، وصلت الخلافات بين بوتين وأوباما بشأن أوكرانيا إلى مستوى فرض عقوبات غربية على موسكو.

ثالثها: حرص موسكو وأنقرة على تجنيب سوريا مصير العراق أو ليبيا، حتى لا يتحول ذلك البلد المهم لكليهما والمفعم بالتنوع الإثني والسياسي، إلى ساحة للفوضى ومأوى للتنظيمات "الإرهابية المتطرفة" على شاكلة "داعش" و"جبهة النصرة" وغيرهما، خصوصا وأن موسكو وأنقرة تخشيان انتقال العدوى إليهما في ظل وجود أقليات إثنية في أراضيهما، ونجاح التنظيمات المتطرفة في تجنيد عناصر مسلمة سواء من داخل الدولتين أو من الدول والتجمعات المسلمة المجاورة لهما.

مقاربات بشأن سوريا

ما إن سارعت موسكو نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني المنقضي لبلورة مبادرة لتسوية الأزمة السورية سياسيا، واستدعاء وزير خارجية الأسد للتشاور معه حولها، حتى تصاعدت التوقعات بشأن إمكانية جنوح أنقرة للقيام بمواءمات في ما يخص موقفها من تلك الأزمة، وهى المواءمات التي لن تنبع فقط من حرص أردوغان على تقليص الفجوة مع نظيره الروسي بقدر ما تتأتى من رغبة أنقرة في إعادة تكييف سياساتها حيال الأزمة السورية مع معطيات واقعها الراهن بغية وقف نزيف الخسائر الإستراتيجية الذي دهم الأتراك قبل ثلاثة أعوام خلت.

فمن جهة واجهت أنقرة عاصفة من الاتهامات الدولية بدعم الإرهاب داخل سوريا، وفي وقت دأبت فيه على تقديم الدعم للمعارضة السورية السياسية والمسلحة، لاحقتها اتهامات بتسهيل صعود الجماعات المتطرفة بسوريا من خلال السماح بمرور أسلحة ومقاتلين أجانب عبر الحدود التركية السورية. 

ومن جهة ثانية، أطل برأسه الهاجس الإثني بعدما شرع حزب الاتحاد الديمقراطي، وغيره من الأحزاب والحركات الكردية، في السيطرة على مناطق واسعة في شمال وشمال شرقي سوريا، والإعداد لإدارتها ذاتيا بضوء أخضر من الأسد، الأمر الذي يشكل قلقا حقيقيا للسلطات التركية خصوصا من ناحية تأثيره على الأكراد الأتراك وسائر الأقليات الإثنية داخل تركيا. 

وفيما تخشى تركيا من أن يتحول شمال سوريا مجددا إلى قاعدة لمقاتلي حزب العمال الكردستاني في حال فشل عملية السلام التي أطلقها أردوغان معه لتسوية القضية الكردية في تركيا سلميا، بدأ العلويون الأتراك، الذين يشكلون كتلة سكانية لا يستهان بها، يهددون بأنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي إذا تعرضت الأقلية العلوية في سوريا للمزيد من ويلات حرب طائفية. 

ولطالما راهنت تركيا على إمكانية إسقاط النظام السوري بسرعة كنظرائه في تونس ومصر وليبيا واليمن، بعدما انتفض الشعب السوري ضده بصورة لم تكن متوقعة، غير أن مجريات الأحداث خلال ما يقارب الثلاث سنوات من عمر الأزمة السورية أدت إلى نتائج كانت تخشاها تركيا. فقد توترت علاقاتها مع إيران وأميركا جراء تباين المواقف حيال الأزمة، في حين تقف حزمة من المحاذير حائلا دون إمكانية حسمها عسكريا، كما تتعاظم خسائر تركيا على كافة الصعد بمرور الوقت جراء استمرار الوضع المتدهور في سوريا.

وتدريجيا تبلور لدى صناع القرار في أنقرة اعتقاد بأن الأزمة في سوريا قد تحولت إلى ما يشبه الحرب بالوكالة بين قوى إقليمية ودولية على الأراضي السورية في نسخة مكررة من المشهدين اللبناني والعراقي. 

وكم كان موحيا ومؤثرا للأتراك تبدل مواقف حلفاء تركيا الغربيين حيال الأزمة السورية، حيث أبدت الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية تراجعا عن سياسة المواجهة مع إيران والنظام السوري عبر إعادة النظر في مواقفهما السابقة إزاءهما بما يتيح التفاهم مع إيران وإعادة تأهيل الأسد توطئة لإعادة بناء تحالفات جديدة في المنطقة بأسرها.

وهكذا تراءى لحزب العدالة التركي أن انحيازه لما يعتبره ثورة الشعب السوري الطامح للحرية والديمقراطية للإطاحة بالنظام الأسدي القمعي قد اصطدم بعزوف المجتمع الدولي عن دعم تلك الثورة، ليس فقط بسبب تعرض مصالحه في المنطقة للخطر، ولكن لنجاح الأسد في تشويه تلك الثورة الشعبية عبر الدفع بتنظيمات "إرهابية" إلى صفوفها الأمامية على نحو جعل من محاربة تلك التنظيمات أولوية للمجتمع الدولي تفوق أهمية نصرة الثورة السورية أو وقف جرائم الأسد.

وبناء عليه بدأت الحكومة التركية تجري مراجعة جدية لسياساتها تجاه سوريا، فكان إسراعها بتحسين علاقاتها مع روسيا وإيران أقوى مناصري النظام الأسدي، ثم فتح أراضيها لإقامة معسكرات لتدريب المعارضة السورية واستقبال مقاتلي البشمركة لمواجهة "داعش" في مدينة كوبانى/عين العرب الحدودية السورية، إضافة إلى اتخاذ إجراءات صارمة للحد من دخول المقاتلين إلى سوريا عبر الأراضي التركية. 

وبالتزامن بدأت تظهر تسريبات تركية بشأن اعتماد الحل السياسي للأزمة السورية، وإعادة تقييم أنقرة لسياساتها حيال سوريا وإعادة تكييفها وفقا لتطورات الأوضاع على الأرض وحسب مواقف القوى الإقليمية والدولية، بما يعين أردوغان على ردم الفجوة بينه وبين الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة، عساه يقلص من خسائر بلاده المتنامية جراء الثورات العربية عموما، والسورية منها على وجه التحديد، بما يعزز مركزها ويعظم مغانمها في سياق الترتيبات الإقليمية الجديدة التي يتم الإعداد لها في واشنطن بشأن مستقبل المنطقة.

عن الكاتب

بشير عبد الفتاح

أكاديمي وباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس