أكرم بوغرا إيكينجي - ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس

يرجع اهتمام السلاطين العثمانيين بالأماكن الإسلامية المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس إلى قرون مضت. وعندما كان المماليك يحكمون الحجاز التي تضم مكة والمدينة، بدأ السلطان محمد الأول تقليد إرسال مساعدة من إسطنبول إلى الحجاز تحملها الجمال في كل عام عرفت باسم الصرة السلطانية أو المحمل الشريف Sure-i Hümayun. وبالإضافة إلى الهدايا الثمينة التي يضمها المحمل مثل الثريات وستارة الكعبة، فقد كانت تحمل هدايا للعلماء البارزين في الحجاز وأموالا للمحتاجين.

أرسل المساهمون في المحمل الشريف الهدايا والصدقات إلى مكة والمدينة مع موكب الصرة. كانت الأراضي المقدسة تضم كثيرا من المحتاجين الذين ينتظرون القادمين من القسطنطينية. وحيث إن السلاطين العثمانيين أعفوا من أداء فريضة الحج بوصفهم خلفاء المسلمين القائمين على الجهاد، فقد أرسلوا مندوبين عنهم لأداء الفريضة، وأصبح هؤلاء المندوبون مسؤولين عن موكب الصرة. كان موكب الصرة يودع باحتفال رسمي، وظل تقليد إرسالها حتى عام 1916.

السلطان العثماني خادم مكة والمدينة المنورة

منذ أن قدم أمير الحجاز مفتاح مكة إلى السلطان سليم في 1517 بعد غزو مصر، تفاخر السلاطين العثمانيون بلقب "خادم مكة والمدينة المنورة". ولذلك عندما دعا إمام المسجد الكبير في دمشق السلطان سليم الأول "مالك مكة والمدينة المنورة"، ساء قوله هذا السلطان، وأمره أن يلقبه "خادم هاتين المدينتين". وقد أظهرت أعمال السلاطين في مكة والمدينة أنهم يستحقون هذا اللقب.

تجاوزت الخدمات التي قدمها السلاطين العثمانيون للإسلام ومكة والمدينة المنورة، ما قدمته الدول الإسلامية السابقة، باستثناء دولة الخلفاء الراشدين الأربعة أبو بكر وعمر عثمان بن عفان وعلي. ومن القصص المعروفة أن السلطان سليم الأول عندما أحضرت أمامه مقشة تستخدم في تنظيف الكعبة من الداخل وضعها السلطان على رأسه مثل التاج. ومن ثم فإن صورة المقشة الموضوعة في عمائم من جاؤوا بعده من السلاطين لها أصل في هذه القصة.

هلال خشبي للحجاج

كانت الخدمات الجليلة التي أداها السلطان سليم للبقاع المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس خدمات فذة لا نظير لها، فخلال عهده رمم سقف الكعبة ومآذن المسجد النبوي بفريق من الحجارين والبنائين والنحاتين أرسل خصيصا من إسطنبول.جددت الحلي الداخلية للقباب، وأقيم محراب الأحناف ليكون محاذيا لمحراب الشافعية في الطرف الشمالي الغربي للروضة الشريفة، كما بنى السلطان مقابر في البقيع لشهداء غزوة أحد.

كما جدد السلطان سليم مسجد قباء ومسجد القبلتين في المدينة المنورة. وعلاوة على ذلك جرت عدة إصلاحات وترميمات في المسجد النبوي كان من أهمها بناء قبة فوق الحجرة النبوية الشريفة. وأرسل سليم كسوة الكعبة المشرفة وكسوة لضريح الرسول صلى الله عليه وسلم، وكسوة لمقام إبراهيم عليه السلام. وفي عهده بنيت أربعة مدارس للمذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في مكة المكرمة. وفي عهده أيضا تم توصيل مياه عين زبيدة من عرفات إلى مكة المكرمة. كما جددت بئر زمزم، وفي وقت لاحق أضيفت قبة على القبر بأمر من السلطان محمد الرابع. تم بناء غرفة مزخرفة لبئر زمزم في عهد السلطان عبد الحميد الأول، ولكنها هدمت في عام 1963.

قام سليمان بإصلاح المسجد الأقصى وبنى جدارا حول القدس بطول ثلاثة كيلومترات القدس، ما يزال قائما حتى اليوم، كما قام بإصلاح القنوات التي تجلب المياه إلى المدينة، وتجديد حمامات المياه في المدينة، وبناء ست نوافير جديدة. كان لدى زوجة السلطان سليم، خُرّم سلطان مطبخ للحساء بني لخدمة المحتاجين في مكة المكرمة والمدينة المنورة بالإضافة إلى مستشفى في مكة المكرمة يعادل نظيره مستشفى الحسكي في القسطنطينية. وكان المجمع الذي بنته حرم سلطان في القدس عام 1551 وضم مسجدا ومدرسة، ورباطا لسكنى طلاب العلم، ومطبخ الحساء، أهم مؤسسة في القدس.

وقد أصلحت مهرماه سلطان ابنة سليمان من زوجته حرم سلطان، عين زبيدة لجلب المياه من عرفات إلى مكة المكرمة. وواصل ابنها السلطان سليم الثاني نفس الخدمة، وفي عهده أنجز رواق القباب المحيطة بالكعبة بمشروع وضعه معمار سنان باشا. وعرف عن سليم الثاني ميله لصناعة الهلال الخشبي رمز الإمبراطورية والسلطنة وتوزيعه على الحجاج.

البناء الحالي للكعبة

في عهد  السلطان مراد الثالث أعيد صنع منبر النبي محمد من الرخام، وزخرف بأروع الزخارف في القسطنطينية عام 1590  قبل إرساله إلى المدينة المنورة، وما يزال موجودا داخل المسجد النبوي الشريف حتى الآن. وقام السلطان محمد الرابع بتجديد مئذنة باب السلام في المسجد النبوي الشريف،  بالإضافة إلى تجديد المآذن والقبة الخضراء.

على مدى قرن كانت كسوة الكعبة تجهز في القاهرة، وتزخرف في ورشة خاصة تقع في مكان مسجد بيلربي الحالي في إسطنبول، وترسل إلى الحجاز كل عام مع الصرة الشريفة  في عهد السلطان أحمد الأول. كما كانت تصنع قناديل خاصة بالحرم الشريف وترسل إلى مكة. وأرسل السلطان أحمد مصباحين زيتيين مرصعين بالماس لتعليقهما في الحرم الشريف والمسجد النبوي.

أما البناء الحالي للكعبة، وكان البناء السابق قد تهدم بفعل السيول، فهو إرث السلطان مراد الرابع 1635. طُلي باب الكعبة بالذهب، وهذا الباب محفوظ في متحف الإسلام في مكة المكرمة. وحظر العثمانيون تشييد مباني أطول من الكعبة والقبة الخضراء حتى يمكن رؤيتهما من بعيد.

قام السلطان محمد الرابع بترميم مآذن الحرم الشريف، وإصلاح أرضيته وتجديدها بحجارة خاصة بحيث لا تتأثر أقدام الحجاج بالحرارة، ونصبت كثير من المصابيح بين الصفا ومروة. ورمم السلطان مصطفى الثاني الركن العراقي أو الركن الشمالي للكعبة، كما وضع غطاء ذهبي للحجر الأسود بأمر من السلطان مصطفى الثاني. وجددت ثلاثة من أعمدة الكعبة الستة التي ما تزال محفوظة في متحف الإسلام في مكة المكرمة، في عهده. كما قام بترميم مسجد قباء، وتشييد مئذنة له، وتطهير خطوط المياه. وفي عهده بدأ تقليد الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في مكة المكرمة بالصلوات وإضاءة المصابيح.

وقد قام السلطان أحمد الثالث بتجديد أرضية المطاف. وقام السلطان عبد الحميد الأول بترميم الحرم الشريف ومقام إبراهيم، وبنيت المدارس والمكتبات في المدينة المنورة. وقد وضعت قصيدة باللغة العربية في مدح النبي على جدران الحجرة النبوية الشريفة، حيث دفن النبي محمد مع أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب.

القبة الخضراء

حصل تمرد من نجد في عهد السلطان سليم الثالث، وهاجم المتمردون الحجاز وذبحوا الناس في مكة والمدينة المنورة، ودمروا المنطقة وحولوها إلى خراب بهدم المسجد والأضرحة وأماكن الزيارة التي بناها العثمانيون. كانت الدولة العثمانية في ذلك الوقت مشغولة بمشاكل أخرى، فطلبت من محمد علي باشا، والي مصر، قمع التمرد.

وبعد القضاء على المتمردين، أعاد السلطان محمود الثاني بناء ما لحق به أضرار، فجدد القبة الخضراء. ولم تكن القصيدة التي كتبها السلطان محمود الثاني في مدح النبي محمد وهو يرسل المصابيح الذهبية إلى القبة الخضراء إلا علامة على الحب والاحترام الذي كان يكنه السلاطين للنبي.

وبسبب الحوادث التي وقعت في مصر وموريا وعصيان الانكشارية والحرب مع روسيا، لم يتمكن السلطان محمود الثاني من القيام بإصلاحات في الحجاز. وبذل ابنه السلطان عبد المجيد جهدا مذهلا لغرس قيم حب مكة والمدينة. ويعد السلطان عبد المجيد أكثر من خدم مكة والمدينة من بين حكام العالم الإسلامي.

رعاية مذهلة

أعيد ترميم الكعبة والحرم الشريف بشكل شامل بناء على أمر السلطان عبد المجيد، وتم تجديد الميزاب الذهبي. أعيد بناء المسجد النبوي في المدينة المنورة على أساسه الأصلي ودون تغيير مواقف الأعمدة، وتمت توسعة المسجد، وفتح الباب الشمالي في المسجد الذي يعرف باسمه "الباب المجيدي"، كما قام بإصلاح وتوسيع خطوط المياه في المدينة المنورة.

وحفر اسم السلطان عبد المجيد في أرضية الحجرة الشريفة بحيث يدوسه الحجاج، كما رفض أن تنقش عبارات المديح له على باب السلام الذي كان النبي محمد ﷺ يدخل منه إلى الكعبة. وضع عبد المجيد نموذجا مصغرا للمسجد النبوي في مسجد الخرقة الشريفة في القسطنطينية، لكي يتابع عملية الإصلاح عن طريق التقارير التي تظهر على هذا النموذج المصغر. جرت إصلاحات الحرمين الشريفين في مكة والمدينة المنورة في ظل ظروف قاسية في ذلك الوقت، وبلغت تكلفتها 700 ألف عملة ذهبية. وقد كلف إصلاح المسجد الأقصى 20 ألف قطعة نقدية ذهبية. ولذلك استحق عبد المجيد لقب خليفة المسلمين وخادم مكة والمدينة المنورة.

وعندما تلقى عبد المجيد تقارير مهمة من المدينة وهو على فراش المرض قبل وفاته بمدة وجيزة، أراد أن يجلس احتراما لما ورد من المدينة المنورة، فقال: "أجلسوني، هذه رسالة من جيران نبينا محمد ﷺ، وأخجل من أسمع رسالتهم وأنا مستلق على سريري. افعلوا ما يطلبون. لقد أسعدتني قراءة رسالتهم".

ضجيج قطار الحجاز

لم يقتصر احترام السلطان عبد الحميد الثاني وفضله وخدماته على الأماكن المقدسة فقد امتدت إلى أهل  الحجاز. قام عبد الحميد الثاني بترميم وتزيين الحرم الشريف، وجدد قبر  السيدة خديجة ورمم البيت النبوي، ومدد المياه إلى مشعر منى، وتم تطهير خطوط المياه التي وضعها سليمان وتمديدها لتخدم الحجاج مرة أخرى، ومدت أنابيب المياه بالقرب من الكعبة.

ولتيسير الحج، قام السلطان عبد الحميد ببناء خط سكة حديد الحجاز من إسطنبول إلى المدينة المنورة. وخلال بناء محطة المدينة أقيمت ورشة بناء خارج المدينة احتراما لحرمة النبي محمد ﷺ، وللسبب نفسه غطيت عجلات القطار بقماش اللباد حتى لا تحدث ضجيجا. ولأن أهالي مكة كانوا يضطرون لاستضافة الحجاج في منازلهم أثناء الحج، قام السلاطين ببناء بيوت مجانية خاصة للحجاج من كل منطقة.

حكم العثمانيون مكة والمدينة المنورة بالعدل والتوقير، وفي عهدهم رممت الأماكن المقدسة وزينت. وعاش أهل المدينتين حياتهم في ظروف سهلة وسعيدة. وقد استمر ذلك حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، حين انتهى حكم العثمانيين للجزيرة العربية والحجاز في عام 1916.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس