د. مدى الفاتح - خاص ترك  برس

خلال اجتماعهم الأخير في بروكسل أواسط يناير الماضي جدد وزراء خارجية أوروبا دعمهم للاتفاق النووي باعتبار أنه يحقق أهدافه و"يجعل العالم أكثر أمناً"، بحسب تعبير فريدريكا موغيريني مسؤولة الأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي.

الاجتماع الذي حضره أيضاً وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بعث بتطمينات مهمة لطهران التي كانت تتخوف من تأثير وجهة النظر الأمريكية المتشددة على رفاقها الأوروبيين. ذلك الاجتماع، على أهميته، لم يستطع منع تهديدات ترامب ولا وقف الجدل والنقاش حول السؤال المركزي الكبير: هل يحقق الاتفاق النووي فعلاً مصلحة أوروبا من الناحيتين الأمنية والاقتصادية؟

بالنسبة لداعمي الاتفاق النووي فإن الاتفاق يخدم بالفعل المصالح الأوروبية، فمن الناحية الأمنية ستكون إيران حريصة على التوقف عن تهديد الأمن الغربي، بما في ذلك ضمان ألا يشكّل ذراعها "حزب الله" المتمدد سورياً أي تهديد على الكيان الصهيوني الحليف. أما من ناحية السوق والاقتصاد، فإن انفتاح السوق الإيراني على الشركاء الغربيين بعد عقود من العزلة سوف يوفر بلا شك مصلحة مهمة للقارة الأوروبية التي باتت تعاني من الشيخوخة والتي بدأ الركود الاقتصادي يتسرب إلى الكثير من مفاصلها حتى وصل الأمر حد التشكيك في جدوى الاتحاد الأوروبي نفسه كمؤسسة.

استخدام مفردة "الصفقة" شائع في الأدبيات الغربية. الحقيقة أن كلا الطرفين كان ينتظر فوائد وعوائد الاتفاق الاقتصادية والتجارية. الطرف الإيراني الذي كانت خياراته الاقتصادية في السابق محدودة والذي استنزف نفسه من خلال تدخلاته العسكرية الخارجية ودعمه غير المحدود للمجوعات الفوضوية في أكثر من مكان، والطرف الغربي الذي كان يتلهف لدخول السوق الفارسي.

كان الاتفاق بالنسبة لإيران مصلحة وطنية تقدم طوق النجاة لاقتصاد أنهكه الانفاق العسكري وأضعفه تهاوي أسعار النفط. كانت بالفعل صفقة مربحة تحصل بموجبها إيران بشكل فوري على 400 مليون دولار، هذا بخلاف تحرير مبالغ مجمدة تبلغ قيمتها مليارات الدولارات. كل هذا سيتم بلا مقابل من الجانب الإيراني سوى القليل من التعهدات اللفظية بتحسن السلوك واحترام الجوار.

الاتفاق، أو الصفقة بالأحرى، كان يتعلق بالدرجة الأولى بإنعاش اقتصاد الجانبين. أما حماس الأوروبيين وابتهاجهم به فقد ظهر في السرعة التي بدأت فيها الوفود من مختلف البلدان بالتوافد على طهران، كما ظهر في الحفاوة التي استقبل بها الرئيس روحاني في العواصم الأوروبية، ولعلنا نذكر كيف غطى المسؤولون في إيطاليا تماثيل روما التاريخية العارية التي يفتخرون بها إبان زيارة الرئيس الإيراني.

أما المقاربة التي كانت تتحدث عن مقايضة الاتفاق بتحسين السلوك الإيراني والتي روّج لها بعض الأكاديميين والسياسيين فلم يكن لها وجود في واقع المحادثات التي لم يناقش فيها أي طرف، ويتساوى في ذلك الأوروبيون والأمريكيون، المعنى السياسي لتحسن السلوك وما يمكن طلبه من إيران في هذا الصدد. كان الحديث يدور في غالبه عن قطع الجزر المغرية: الإلغاء التام والوشيك للحظر التجاري على إيران وتمكن الدولة الخارجة من الحصار في وقت قريب من شراء الذهب والمعادن الثمينة وصيانة الطائرات المدنية وغير ذلك من تفاصيل الاقتصاد والتجارة كالفوائد المترتبة على الجانبين الإيراني والأوروبي من تطوير الأولى لأنشطتها المتعلقة بصناعة السيارات أو المواد البتروكيميائية أو حتى السجاد.

لم يكن من المطروح أن يشرع أي مسؤول غربي في الضغط على طهران وتهديدها بإلغاء الاتفاق إذا ما واصلت مشاريعها الفوضوية في المنطقة، وذلك ببساطة لأنه في هذه الحالة فإن الخسارة لن تكون فقط من نصيب الجانب الإيراني ولكنها ستكون كذلك خسارة فادحة للجانب الأوروبي الذي بدأ بعض رجال أعماله بالفعل وبعد أيام من اكتمال التوقيع على الاتفاق مشاريع تتجاوز قيمتها ملايين الدولارات. هذا هو ما جعل الاتفاقية تبدو كصفقة مضمونها أن تسلّم طهران مفاتيح اقتصادها للغربيين وتمنحهم وضعاً مريحاً للتبادل التجاري والاستثمار مقابل غض النظر عن تجاوزاتها وعبثها في أركان المنطقة.

"الربط الاقتصادي" بهذه الطريقة كان ناجحاً في تحييد مواقف الكثير من الدول الأوروبية التي ظلت ترفض بقوة عودة إيران لمربع الحظر والعقوبات، ما أدى لعجز الولايات المتحدة عن تنفيذ تهديداتها بتمزيق الاتفاق، أو حتى مراجعته، واكتفائها بفرض عقوبات أحادية.

المنطق الذي نناقشه هنا غير منفصل عن التعاطي الغربي العام مع قضايا العلاقات الدولية التي يتصرف إزاءها ببراغماتية مجردة. هذه البراغماتية هي التي تجعل الدول الأوروبية، في كثير من الأحيان، مستعدة للتعاون مع أنظمة مستبدة ومجرمة، أو على الأقل غض الطرف عن ممارساتها وانتهاكاتها، إذا ما كانت هذه الأنظمة تقدم في المقابل خدمات مهمة لها. الأمر على هذا النحو لا جديد فيه، لكن، إلى أي مدى يمكن للشركاء الغربيين، والأوروبيين بخاصة، الاطمئان إلى إيران فعلاً؟

بعيداً عما يمكن اعتباره وجهة نظر قد تحتمل أن تكون خاطئة يمكننا ترك الواقع ليحكم. ذلك الواقع يخبرنا أن المخابرات الألمانية قد كشفت مؤخراً عن أنشطة لخلايا جهاز الاستخبارات التابع للحرس الثوري الإيراني داخل ألمانيا. المفارقة هي أننا نتحدث هنا عن إحدى أهم  الدول الأوروبية الداعمة لإيران ضد محاولات إفشال الاتفاق النووي. تقول الأخبار التي تداولتها وسائل الإعلام بهذا الصدد أنه قد تم إلقاء القبض على ما لا يقل عن عشر أفراد كانوا منخرطين في نشاطات مكثفة للتجسس على مسؤولين ومنظمات في ألمانيا.

هذا مجرد مثال على خطأ المراهنة المطلقة على نظام الولي الفقيه الذي يتصرف في كثير من الأحيان برعونة تفتقر إلى المنطق. لن تكون مثل هذه الأخبار مدهشة لنا نحن الذين جربنا "الانخراط البناء" على الطريقة الإيرانية في العالم العربي ورأينا كيف تتصرف إيران مع الدول التي تفتح لها أبواب التعاون وتقدم لها أطواق النجاة الاقتصادية والسياسية. اليوم تتكرر ذات المشاهد أوروبياً، ففي الوقت الذي يحتاج فيه النظام الإيراني لدعم الجانب الأوروبي، وخاصة ألمانيا ذات الثقل الكبير فيه، تجده يجبر الأخيرة على استدعاء السفير الإيراني لديها ونقل احتجاج رسمي إليه.

يركز ناقدو الاتفاق النووي من الأوروبيين أيضاً على ثلاثة نقاط تعتبر أساسية عند التطرق لتقييم مدى تحقيق هذه "الصفقة" للمصلحة الأوروبية وهي:

أولاً: صحيح أن أوروبا الآن في أضعف حالاتها الاقتصادية وهو ما يجعلها مجبرة، لحد كبير، على عدم التفريط في المكاسب الاقتصادية التي يقدمها لها هذا الاتفاق، إلا أنه يجب مع التطورات الحالية إعادة تقييم هذه المكاسب، ففي ظل العقوبات الأمريكية التي تعوق دون تدفق المليارات الموعودة لإيران كما تحول دون انفتاح سوقها بالشكل الذي كان متوقعاً يكون من المبالغة الرهان على الدولة التي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة كادت تودي باستقرارها السياسي.

ثانياً: طالما أن المسألة هي ربح وخسارة منفصلة عن أي شيء آخر، فإنه يجب تقييم الخسائر التي تترتب على الانخراط السياسي والاقتصادي مع نظام الولي الفقيه الذي يدخل في حرب مباشرة أو بالوكالة مع أطراف خليجية يرتبط بها الاقتصاد الأوروبي ويخلق معها شراكات ثابتة.

ثالثاً: حتى وإن اقتنعنا بأن التهديدات الإيرانية الموجهة بشكل مباشر إلى الأمن الأوروبي هي قليلة أو منعدمة (رغم أن ذلك غير صحيح بدليل مسألة جواسيس ألمانيا)، فإن تهديدات إيران الإقليمية ليست بعيدة، وإشعالها لنيران الحروب وتسببها بعدم الاستقرار في الجوار يؤدي في المحصلة لموجات هجرة ونزوح باتجاه أوروبا التي بات تدفق المهاجرين يشكل لها هاجساً أمنياً واقتصادياً.

هل يكون ذلك كافياً لتغير الدول الأوروبية نظرتها للاتفاق النووي؟ حتى الآن لا توجد مؤشرات فعلية على ذلك، بل يبدو الاتفاق وكأنه جزء من لعبة التحدي والتنافس بين الطرفين الأمريكي والأوروبي.

عن الكاتب

د. مدى الفاتح

كاتب سوداني


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس