د. مدى الفاتح - خاص ترك برس

في أعقاب التصعيد بعد مقتل الأستاذ الفرنسي على يد أحد التلاميذ الذين أغضبهم عرض رسوم ساخرة للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، والتصريحات الغاضبة والمتهورة التي أدلى بها الرئيس الفرنسي عقب الحادث والتي عبر فيها عن دعمه للكاريكاتير، ما أثار حنق الملايين من المسلمين وتسبب بدعوات مقاطعة فرنسا، نشرت صحيفة "شارلي إيبدو" المثيرة للجدل كاريكاتيراً مزدحماً بالرسائل ظهرت فيه من جهة مسلمة محجبة وهي تضع مساحيق تجميل مبالغ فيها وتقدم كؤوس خمر، في حين يجلس خلفها الرئيس التركي أردوغان بملابس داخلية مبتسماً وهو يرفع ثوبها ليظهر عورتها قائلاً: هذا هو رسولي.

كان الكاريكاتير منسجماً مع مساعي الصحيفة المتواصلة للسخرية من الإسلام والمسلمين تحت ذريعة حرية التعبير. الرسالة كانت هي أن هؤلاء المسلمين الذين يتظاهرون بالطهر ليسوا في الواقع سوى مجموعة من الفاسقين، أما النساء اللواتي يبدون بمظهر متطهر فهم يخفون خلف حجابهم أرواحاً داعرة.

بغض النظر عن أزمة الرسوم المسيئة الحالية فإن كثيراً من الغربيين طالما كانوا يجتهدون في تثبيت هذه الفكرة: الفسوق خلف مظاهر التقوى. هذا ما نجد حتى على مستوى منتجي الأفلام الإباحية من الذين يبحثون عن فتيات ذوات ملامح شرقية من أجل توظيفها بعد إلباسها الحجاب الإسلامي.

كاريكاتير الصحيفة لم يكن عفوياً، ولا يمكن للمرء أن يفصله عن الإيديولوجية الاستشراقية التي كانت تحاول تبرير الاحتلال والغزو بقولها أن شعوب الجنوب هي مجرد شعوب بربرية وهمجية وبلا أخلاق، وهو ما كان يعتقده بعض الأوروبيين فعلاً لدرجة أنهم كانوا يمنون أنفسهم بخوض تجارب عاطفية وجنسية غير محدودة في تلك المجتمعات الغرائبية,

صدمة الغزاة واكتشافهم أن دول الجنوب، وخاصة في المناطق ذات الثقافة الإسلامية، كانت ذات حضارة أرقى وأكثر اهتماماً وتشدداً فيما يتعلق بقيم الشرف العائلي وضوابط الأخلاق، لم تدفعهم للتوقف عن تفكيرهم الخاطىء السابق، لأن الاعتراف بهذه الحقيقة كان ينسف جوهر فكرة الاستعمار الذي يغزو البلاد، لا لكي ينهب خيراتها وإنما لينقلها لدرب الحضارة.

دفع ذلك الغربيين لانتاج شرق بديل لا يستند على الواقع الفعلي والمشاهدات الحقيقية بقدر ما يستند على الأساطير وحكايات ألف ليلة وليلة. فيما يسبق اكتشاف التصوير ازدهرت اللوحات الاستشراقية التي توحي بشكل خادع بأنها مأخوذة من الحياة اليومية في حين أنها مجرد خيال وتهويمات لا وجود لها إلا في عقل منتجها عن النساء العاريات أو المستعدات لتجريب كل جديد، أو غير ذلك من الأفكار التي ما تزال متاحف الفن محتفظة بها.

المسألة لم تقف عن حد الفنون ولكن تعدتها لكتب الرحالة الذين أدخلوا مصطلح "الحريم" للمعجم الأوروبي وهم يتحدثون عن مجتمعات بعلاقات مفتوحة و تعدد نسائي مسموح به، كما تعدتها للمجال الروائي بظهور روايات، أيضاً ذات مظهر واقعي خادع، يحكي فيها أصحابها عن تجارب مختلقة خاضوها في بلاد الشرق.

بجانب كل هذا الاحتشاد في المعاني يظهر الرئيس أردوغان في الكاريكاتير وهنا لا يتركك  صاحب الرسوم دون أن يوضح لك مقصده بعبارتين. العبارة الأولى: "هذا هو رسولي" التي تشير إلى عورة المرأة الظاهرة والثانية تعليق يقول أن أردوغان أيضاً مرح في حياته الخاصة. 

السبب في إقحام الرئيس التركي في هذا السياق الساخر من الإسلام والمسلمين ربما يعود لكونه كان صاحب الصوت الأعلى في الاعتراض على الرسوم المسيئة من بين حكام العالم الإسلامي الذين فضل معظمهم، ولأسباب وتقديرات مختلفة، تجاهل هذه الحادثة أو الاكتفاء بإدانة الهجوم الذي راح ضحيته المعلم الفرنسي.

اللافت أن الكاريكاتير تعامل مع الرئيس التركي بذات المنطق الاستشراقي الذي كان يصور الخلفاء والسلاطين كحكام لا أخلاقيين وغارقين في الخطيئة ومجتمع الحريم رغم ما يظهرونه من حب للجهاد ورغبة في الدفاع عن الإسلام. الرسالة كانت أن الزعيم الذي يظهر غيرة على الدين ودفاعاً ضد محاولات السخرية منه ليس في الواقع سوى منافق.

الاتهام بالنفاق والمتاجرة بالدين شائع ضد أردوغان ليس فقط في العالم الغربي، ولكن أيضاً لدى كثير من الفئات في العالم الإسلامي. الأكيد أن الظهور بمظهر المدافع عن الإسلام واستخدام عبارات قوية ضد من يحاولون الانتقاص من شأن هذا الدين أو من قدر نبيه، عليه السلام، يساهم بلا شك في رفع شعبية أردوغان بين الأوساط المحافظة، كما يكسبه قدراً كبيراً من التقدير لدى أوساط مختلفة في عموم البلدان الإسلامية.

السؤال لا يجب أن يكون: لماذا يلجأ أردوغان للحديث باسم المسلمين وينصب نفسه مدافعاً عنهم؟ وإنما: لماذا يصمت بقية القادة في المنطق سامحين له بأن يكون الصوت الأعلى والأكثر جدية في إعلان الحرب الإعلامية والثقافية والاقتصادية على محاربي الإسلام؟

في لقائه مع قناة الجزيرة حاول الرئيس ماكرون أن يبرر موقفه وكانت النقطة التي ركز عليها هي احترامه الشخصي للإسلام والتذكير بان الوسائط الإعلامية الفرنسية لا تعمل تحت إشراف الدولة. منطق ماكرون بدا متناقضاً قليلاً مع واقع الاحداث، فصحيح أن الدولة لا تشرف بشكل مباشر على أجهزة الإعلام، كما في الأنظمة الشمولية ولكنه سبق أن عبر عن دعمه للكاريكاتير الساخر دون قيد أو شرط. من ناحية أخرى نحن نلاحظ حالة التحشيد في وسائل الإعلام الفرنسية ضد الإسلام والمسلمين والتي تبدو المعركة المفتوحة ضد الحزب الحاكم التركي أحد مظاهرها، فقد أصبح من المعتاد أن تتم استضافة ثلاثة أو أربعة من المعلقين في البرامج الأخبارية أو التحليلية لكن من الذين ينطلقون من ذات الرؤية حول الإسلام أو الموقف من العالم الإسلامي، فلا تكاد وجهة النظر المقابلة تجد حظها في الظهور أو في إسماع صوتها.

العلاقة بين الرئيسين التركي والفرنسي ليست جيدة وقد تصاعدت التصريحات الحادة بينهما مؤخراً ولم يعد كل منهما يخفي ضيقه من الآخر. أردوغان لم يكتف إثر هذه الأزمة بالتصريح ولكنه تبنى الدعوة الشعبية لمقاطعة المنتجات الفرنسية وهو ما كانت له نتائج سلبية على الاقتصاد الفرنسي.

رأى البعض في تعليقهم على الأحداث أن الخلاف بين الطرفين ليس خلافاً دينياً بقدر ما أنه خلاف على الجيوبوليتيكا، ففرنسا باتت تشعر ان تركيا باتت تتمدد وتتوغل داخل حدود نفوذها. ماكرون الذي تقاتل بلاده مع المعسكر المنافس لتركيا في ليبيا في الوقت الذي تدعم فيه بقوة تحركات اليونان وقبرص ضد تركيا لم يخفي غضبه من دعم تركيا لأذربيجان، في حين رأت جهات مقربة منه في كل ذلك محاولة تركية لتطويق فرنسا.

تتفق سيلفي كوفمان من صحيفة "لوموند" مع كون أن الأمر هو بالأساس جيوبوليتيكي وليس عقدي وهي تدلل على ذلك بالعلاقة الطيبة التي تربط تركيا بالصين مع وجود أزمة أقلية "الإيغور" المسلمة.

ترى كوفمان أن الأمر لا يتعلق فقط بالتمدد الخارجي، ولكن تركيا من خلال جالياتها النشطة والأئمة الأتراك الذين تقدر نسبتهم بالنصف من مجمل عدد الأئمة الأجانب تقف حجر عثرة ضد مشروع "الإسلام الفرنسي" الذي طالما حاولت باريس جعله واقعاً.

يمكننا أن تنفهم انحياز كثير من المجموعات والدول العربية والإسلامية لصالح فرنسا في جميع تحركاتها نكاية في تركيا التي لا يتفقون مع مشاريعها أو توجهاتها الخارجية، لكن الصعب هو أن نفهم استمرار هذا الانحياز على حساب الإسلام والمسلمين وفقط لمجرد إضعاف الموقف التركي.

عن الكاتب

د. مدى الفاتح

كاتب سوداني


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس