د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

انتشر جدل ونقاش واسع بين أبناء الأمة الإسلامية عامة والعربية بشكل خاص، حول فكرة تنازل السلطنة العثمانية ولا سيما في عهد السلطان عبد الحميد الثاني عن ولايات الدولة ومن بينها التخلي للإيطاليين عن ليبيا، ذلك أوجب إيراد بعض الإضاءات التاريخية عن سياقات تلك المرحلة المهمة من تاريخ الأمة. وفي الحقيقة كان لدى الإسبان والبرتغال ومن خلفهم الفاتيكان وبعض ملوك وأمراء أوروبا (بعد طرد المسلمين من الاندلس والبدء بحركة الكشوف والاستعمار خارج حدودها) رغبة شديدة في: إرجاع شمال أفريقيا إلى حضن الديانة النصرانية.

كان نجاح الأوروبيين في نزع الأندلس من أيدي المسلمين محفزًا لهم في المضي قدمًا إلى نقل النموذج الإسباني في مناطق جنوب البحر الأبيض المتوسط الإسلامية.  وقد مرت المحاولات الأوروبية في غزو شمال أفريقيا بمحطات تاريخية متعددة، وشهدت وقائع وعِبر تاريخية، ومنها: 

1- حدثت صدامات وملاحم عظيمة عبَّر فيها المغاربة والجزائريون والتوانسة والليبيون عن حبهم العظيم لدينهم، وقدموا قوافل الشهداء من أجل الدفاع عن عقيدتهم وأوطانهم وأعراضهم.

2- اهتمت الدولة العثمانية في زمن السلطان سليم الأول (1512 – 1520 م)، وفي عهد السلطان سليمان القانوني (1520 – 1566 م) ووقفت مع حركة الجهاد في البر والبحر، وقدمت لشعوب شمال أفريقيا المساعدات والدعم المادي والمعنوي.

3- دخلت الجزائر تحت نفوذ الدولة العثمانية منذ زمن السلطان سليم الأول، وظهر في ساحة الجهاد قائدان عظيمان هما: خير الدين بربروسا وأخيه عروج، وبذلك أصبح المشروع الإسلامي يقاوم الغزو الصليبي في البحر المتوسط وشمال أفريقيا.

4- كان ظهور السلطان سليم الأول السلطان سليمان القانوني، من رحمة الله بالمسلمين عمومًا والشمال الأفريقي خصوصًا، وقد وفقهم الله في التصدي للمشاريع الغازية الهادفة إلى تغيير عقيدة المسلمين وتنصيرهم. وبقيت شعوب شمال أفريقيا تحت الراية العثمانية عدا المغرب الأقصى.

5- حاز خير الدين بربروسا، بعد توفيق الله ودعم الدولة العثمانية له، على مكانة بارزة كقائد للأسطول العثماني في البحر الأبيض المتوسط.  

6- استطاع حسن آغا الطوشي أن يحطم الأسطول الإسباني ويهزم الجيوش الصليبية الغازية بقيادة شارل الخامس على أرض الجزائر في معركة الواد (سميت معركة الجزائر الكبرى) في 16 أكتوبر 1541م. وكان لتلك الهزيمة أثرها على سمعة الإمبراطورية الإسبانية وعلى نفوذها العالمي، حيث تحجمت أحلامها الاستعمارية وتلاشت شيئًا فشيئًا، ولم تحقق نجاحها إلا في بعض مناطق أمريكا اللاتينية (الجنوبية).

7- ظهر في الشمال الأفريقي قادة عظام جاهدوا ضد الإسبان والنصارى في البحر المتوسط من أشهرهم حسن خير الدين بربروسا وصالح رايس وقلج علي، وكانوا على علاقة وثيقة بالدولة العثمانية وتابعين لها، واستطاعوا بالتنسيق معها لإفشال الكثير من مخططات الغزو الأوروبي الصليبي للعالم الإسلامي.

8- كان للمغاربة جهود عظيمة في الحفاظ على بيضة الإسلام، وخاضوا مواقع مجيدة مع الصليبيين، فكان انتصارهم على الغزاة البرتغال في معركة وادي المخازن (معركة الملوك الثلاثة أو القصر الكبير) في 3 أغسطس 1578م لعدة عوامل:

- القيادة الحكيمة والحنكة التي تمثلت في شخصية الملك المغربي عبد الملك السعدي وأخيه أبو العباس.
- التفاف المغاربة حول قيادتهم الرشيدة.
- رغبة المسلمين في الزود عن دينهم وأعراضهم، والعمل على تضميد الجراح بعد سقوط غرناطة في عام 1492م وضياع الأندلس.
- اللافت في الانتصار، هو الدور الكبير للدولة العثمانية في تحقيق النصر في المعركة، حيث اشترك خبراء عثمانيون في تلك المعركة تميزوا في المهارة بالرمي بالمدفعية، مما جعل المدفعية العثمانية تتفوق على المدفعية البرتغالية.

9- في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني اهتم بليبيا اهتمامًا لافتًا، وقد كانت إيطاليا منذ بداية عهده (بعد أن حددت حصتها في مؤتمر برلين عام 1878م) تحلم بضم شمال أفريقيا، لأنها تراها ميراثًا إيطاليًا "رومانيًا"، (هو ما صرح به رئيس وزرائها ماتيو زيني). وخاصة أن فرنسا احتلت تونس عام 1881، وإنكلترا نالت حصتها من التقسيم في برلين في مصر عام 1882 م.

10- كان السلطان عبد الحميد الثاني متيقظًا للأطماع الإيطالية وتصدى لهم بعزم وحزم؛ اتخذ التدابير اللازمة، وأمد القوات العثمانية في ليبيا بالخبراء وبحوالي 15 ألف جندي بعتادهم وسلاحهم لتقويتها، وظل يقظًا حساسًا أما التحركات الإيطالية، ومتابعتها شخصيًا وبدقة، مما جعل الإيطاليون يضطرون إلى تأجيل احتلال ليبيا، وقد كان دعم العثمانيين للحركة السنوسية متميزًا وظاهرًا.

11- تم احتلال إيطاليا لليبيا في عهد جمعية الاتحاد والترقي، ولم يكن في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، حيث عزل الاتحاديون السلطان عبد الحميد في عام 1909م، وكان الغزو الإيطالي لليبيا عام 1911م.

12- كانت حكومة الاتحاد والترقي التي عزلت السلطان عبد الحميد الثاني عن الحكم مدعومة من الدولة الأوروبية واليهود والمحافل الماسونية، بل هي صنيعة لهم وليس علاقة لها بالمرجعية الإسلامية لا من قريب ولا من بعيد، بل مضت قدمًا نحو التغريب والعلمنة الأوروبية ومحاربة الإسلام وتعاليمه.

13- وقعت حكومة الاتحاد والترقي على اتفاقية التنازل عن ليبيا لإيطاليا في مدينة لوزان بسويسرا) ما عرف اتفاقية قلعة أوشي/ لوزان) في 3 أكتوبر 1912، وبموجبها انسحبت القوات التركية من ليبيا وسلمتها لإيطاليا.

 14- استطاعت حركات المقاومة في شمال أفريقيا في تونس والجزائر والمغرب وليبيا التصدي للاستعمار الأوروبي وحركات التنصير المصاحبة له بفضل الله ثم تمسك تلك الشعوب بقيمها ودينها، وبِهمة قادتهم الكبار أمثال عبد الكريم الخطابي في المغرب الأقصى والأمير عبد القادر الجزائري في الجزائر وعبد العزيز الثعالبي في تونس والشيخ عمر المختار في ليبيا.

وفي نهاية المطاف يمكننا القول: لم يساهم العثمانيون لا في عهود السلاطين الأوائل (سليم الأول وسليمان القانوني) ولا في عهود السلاطين الأواخر (السلطان عبد الحميد الثاني) في التنازل عن جزء من العالم الإسلامي، ولا في منح ليبيا لإيطاليا أو الجزائر لفرنسا أو مصر للإنكليز، بل ساهموا في حمايتها بكل قوتهم والدفاع عنها، والزود عن أبناء المسلمين فيها، وتحملوا مع قادة النضال الشعبي والجهاد الوطني التحديات والمصاعب حتى لحظة عزل السلطان عبد الحميد، واستلام حكومة الاتحاد والترقي والمحفل الماسوني اليهودي والقومي إدارة الدولة ليتم التنازل عن مناطق الدولة العثمانية واحدة تلو الأخرى.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس