معاذ السراج – خاص ترك برس

فيما أثار تقديم موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا الكثير من النقاشات والتكهنات، فإنه أحدث كذلك نوعا من النقاش الأخلاقي والقيمي، إذا صح التعبير. فبمقابل من يرى في هذه الخطوة ضرورة لمستقبل تركيا وحماية لها من المخاطر التي تحيق بها من كل جانب، وضرورة قطع الطريق على فرص إحداث الفوضى والبلبلة السياسية، هناك من يتبنى التفسير المصالحي، ولا يرى في الموضوع إلا طمعا بالمنصب، واحتكارا للسلطة، وطموحا للتجديد تلو التجديد. ويأتي هنا الترشيح المحتمل للسيد عبدالله غل ليثير المزيد من النقاش حول التنافس السياسي بين "إخوة الدرب" ومدى خضوعه للمعايير القيمية، خاصة بالنظر إلى أن المتنافسين سبق أن ناضلوا سوية، وحملوا المسؤولية متساندين في ظروف صعبة، وسبق أن تنازل كل منهم للآخر، وحمى ظهره، في سابقات سياسية قليلة الحدوث.

ثمة من يرى أن السياسة والأخلاق لا يتفقان، وهذا صحيح إلى حد كبير بالقياس إلى الوقائع المشاهدة، وتؤيده الكثير من الكتابات في تاريخ السياسة القديم والمعاصر، ومن هذا المنطلق انتشرت الكثير من المصطلحات والتعابير السلبية التي تصف السياسة بأنها "فن الكذب والمراوغة" وأن "السياسة لا دين لها"، وأنها "مجرد مصالح"، وتصف السياسيين بأقبح الصفات كالغدر والكذب وسوء السيرة، وفساد الخلق إلخ. ومن المؤسف أن في التاريخ الكثير مما يؤيد ذلك. في التاريخ القريب لمعت الكثير من الشخصيات السياسية ووصفت بالدهاء والبراعة، وقوة التأثير. لكنها بالمقابل لم تكن تتمتع بالاستقامة وحسن السيرة والخلق، وافتقدت الكثير من الحس الإنساني النبيل، ومن أمثال هؤلاء نابليون ولويد جورج وتشرشل وغلادستون، وكثيرون غيرهم، وفي السنوات الأخيرة برزت أسماء مثل: بوش وتوني بلير وكيسنجر ومادلين أولبرايت وكوندوليزا رايس، وغيرهم، لكنهم جميعا التصقت بهم سمعة بالغة السوء ليس في الشرق الأوسط فحسب وإنما حتى في بلادهم. وبمتابعة كتاب سير الساسة الأمريكان فإننا نجدهم لا يتورعون عن نعت كيسنجر (على سبيل المثال) بالصفات المقذعة، ليس أقلها الكذب والأنانية الغدر (يقال إنه غدر برئيسه نيكسون ولم يكن ناصحا أمينا)، فضلا عن عقليته المدمرة التي أودت بحياة ملايين الفيتناميين الأبرياء. ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لكوندوليزا رايس وتوني بلير وبوش وما لفقوه للعراق من أكاذيب وتلفيقات أدت إلى قرارات سياسية خطيرة تسببت بحروب ومآس للعديد من الدول وشعوبها، وستبقى وصمة عالقة على جبين السياسات الدولية المعاصرة، كما يرى البعض.

من الإنصاف والموضوعية ملاحظة أن العديد من الكتاب والسياسيين الغربيين لا يخفون امتعاضهم ومرارتهم من سياسات بلادهم، ويرون أنها باتت تفتقد للقيم والمعايير الأخلاقية والإنسانية. (وودرو ويلسون) الرئيس الأمريكي الذي وضع ما سمي تاريخيا ب (مبادئ ويلسون)، أو (نقاط ولسون الأربعة عشر التي قدمت للكونغرس في 8 كانون الثاني/ يناير 1918، وتضمنت 14 مبدأً للسلم ولإعادة بناء أوروبا من جديد بعد الحرب العالمية الأولى)، وهو الذي اشتهر عنه قوله عن عصبة الأمم: "أنها مكونة من متآمرين وحرامية". ودائما لم تخل الساحة من شخصيات سياسية اتصفت بالحكمة والرصانة وتغليب جانب المعايير والأخلاقية والإنسانية، وإن كان أغلبهم لم يسعفهم الحظ بالوصول إلى مناصب ومسؤوليات مؤثرة، لكن وجودهم يؤكد على خطأ الفرضية القائلة بالتعميم، ويبقي المجال مفتوحا أمام الخيارات الجيدة الموجودة دائما لكنها تنتظر الفرصة الملائمة للظهور.

ينطبق هذا على ساحتنا السياسية العربية التي تحفل ذاكرتها السياسية بالكثير من الأسماء المهمة، والتي طالما تمتعت بالمصداقية والوطنية والنزاهة والسمعة الجيدة، ورأى فيها كثيرون حروفا مضيئة في الظلام الدامس الذي تتسم به سيسات اليوم، لكن الظروف لم تسعفها في إحداث التغييرات المطلوبة كما حدث في بلاد أخرى، ومع هذا فقد ظُلِمت هذه الشخصيات وتنوسيت نتيجة التعميم الظالم، والنظرة السوداوية الصورة، وقتامة المشهد السياسي، وحالة العدمية التي باتت تتصف بها المواقف والتحليلات خاصة في ضوء الظروف المأساوية التي تعيشها الأمة.

وبالانتقال للساحة التركية، فإن فسيفساء السياسة تحفل بالكثير من النماذج، وفي فترة الصعود التي تشهدها تركيا في الاونة الأخيرة لا يستحسن الوقوف عند مشهد الساعة الراهنة، ولابد من استحضار الكثير من الأمثلة الجيدة، فعلى سبيل المثال ينظر كثيرون باحترام بالغ لرجل مثل "عدنان مندريس" (رئيس وزراء تركيا طيلة عقد الخمسينيات من القرن الفائت)، ويعتبرون عهده بداية انطلاق الإصلاحات الاقتصادية والسياسية في تركيا الحديثة. ولا تقل في هذا السياق شخصية "تورغوت أوزال" الذي حظي باحترام الجميع، ورسخ التقاليد التي بدأها مندريس، وحمل المبادئ الإسلامية بنفس قدر التزامه بالعلمانية الغربية، وكان ملتزما بالصلاة وحج ثلاث مرات، ومع هذا بقي مصنفا في خانة المخلصين للجمهورية الكمالية، حيث احتفظ برئاسة الوزراء قرابة عشر سنوات (وفي عهد الحكم العسكري) حتى توفي عام  1993، وكذلك نجم الدين أربكان الذي تولى منصب نائب رئيس الوزراء (1974)، وشارك رئيس الحكومة بولند أجاويد في اتخاذ قرار التدخل في قبرص في العام نفسه، وحقق مكاسب كبيرة لتيار الإسلام السياسي وحصل على تنازلات مؤثرة من قبل حزب الشعب. ورغم سجنه لاحقا لكنه عاد في عام 1996 ليترأس حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم برئاسة تانسو تشيللر. وفي ذلك كله أسهم في ترسيخ العديد من المفاهيم والتقاليد السياسية التي تركت آثارا هامة ومهدت السبيل لصعود "العدالة والتنمية" وهيمنته على الحياة السياسية منذ بدايات الألفية الثانية تقريبا.

هذه الشخصيات وأمثالها، وهم كثر، يمكن أن تكون لها بعض الهنات والأخطاء والمثالب، وخاصة بالنسبة للمقربين منهم والذين تتاح لهم عادة فرصة الاحتكاك والاطلاع عن قرب، لكن الصورة العامة التي تبقى في الأذهان حولهم تكاد تلخص سيرة حياتهم وتحدد مؤشراتها الساسية.

وفي السجال السياسي المحتدم اليوم والذي تخوضه شخصيات من مختلف الاتجاهات والانتماءات، وإلى جانب النظرة الناقدة والتحفظات السلبية، قد يكون من الحكمة إدخال بعض الرؤى الإيجابية، والتعامل مع الشخصيات المتنافسة من منطلق الإنصاف والرؤية الشاملة التي تشخص السلبيات لكنها لا تتجاهل الإيجابيات والجوانب المضيئة.

لاشك أن العوامل والنزعات الذاتية، لا تنفك عن الطبيعة الإنسانية، التي توصف دائما بحساسيتها للمؤثرات المحيطة، وقابليتها الشديدة للتقلب والانحراف، وهي السمة التي غالبا ما تنطبع بها شخصيات الزعماء والقادة، ولا ينجو منهم إلا القليل، ويرد في هذا قول الله تعالى: "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض, فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى، فيضلك عن سبيل الله". بالتأكيد لا يمكن استخدام هذا النص القرآني لتبرير الانحراف والشذوذ للسياسيين أو تخفيف وقعه ووطأته، بمقدار ما هو توصيف للواقع، وتحذير من مغبة الانسياق وراء نزعات النفس، وفي النهاية وضع المثال والنموذج الذي يمكن تقليده والتطلع نحوه.

في ضوء ما سبق، قد يسوغ للبعض أن يرى في مثل هذه المبادرات والخطوات، أهمية كبيرة، وضرورة لا غنى عنها للحفاظ على ديناميكية المشهد السياسي وتفاعلاته، وإضفاء الحيوية عليه وإخراجه من حالة السكون والجمود. وبهذه المثابة أن تشكل أساساً وقاعدة للنقاش حول إمكان تغيير أو تعديل المفاهيم المتداولة حول السياسة وملابساتها، والصورة الذهنية (السلبية) السائدة، ومن ثم ترسيخ تقاليد جديدة أكثر أخلاقية وعقلانية، تنسجم مع القيم والمبادئ التي نحملها. فإلى اي مدى ستسهم النقاشات التي قد تحدثها مثل هذه المبادرات أو حتى المفاجآت السياسية في تغيير الصورة النمطية عن السياسة؟ وهل يمكن صياغة بيئة سياسية تتوافق مع بيئتنا والقيم والمعايير الأخلاقية والوطنية والإنسانية التي ندين بها؟

عن الكاتب

معاذ السراج

كاتب وباحث سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس