سعيد الحاج - عربي 21

في الطريق نحو الانتخابات التركية المقبلة، ثمة استراتيجيات واستراتيجيات مضادة، وصفتُها سابقاً بـ"لعبة الشطرنج" التركية.

حيث قرَّب تحالفُ حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية والذي سمِّي لاحقاً "تحالف الشعب"، بقيادة أردوغان، موعدَ الانتخابات؛ لتضييق هامش المناورة والمبادرة أمام المعارضة -ضمن أسباب أخرى- فقابلتْه تلك الأحزاب بنقل نواب من حزب الشعب الجمهوري إلى "الحزب الجيد"؛ لضمان مشاركته في الانتخابات، ثم تأسيس "تحالف الأمة" للانتخابات البرلمانية.

وفي حين قدَّم "تحالف الشعب" مرشحاً واحداً قوياً هو الرئيس الحالي أردوغان، حاولت أحزاب المعارضة فعل الشيء نفسه بمرشح قوي مثل الرئيس السابق عبد الله غل، وحين فشلت في ذلك عمدت إلى ترشيح أكبر عدد ممكن من المرشحين (بلغوا خمسة) في مواجهته، وفق استراتيجية هدفت إلى كسب أصوات من مختلف التوجهات الفكرية والسياسية بالبلاد؛ لمنع أردوغان من حسم المواجهة في الجولة الأولى؛ ومن ثم نقل المعركة الانتخابية إلى جولة إعادة يمكن فيها مناقشة فكرة دعم المرشح الذي سينافس أردوغان فيها، كائناً من كان.

واليوم، ومع بدء الحملات الانتخابية وقطعها شوطاً مهماً، يمكن أيضاً رصد استراتيجيات واضحة للمرشحِين الرئاسيِّين، تضع نصب عينيها الخرائط المجتمعية والسياسية والفكرية بتركيا وكيفية إرضاء وإقناع الناخب وكسب نقاط في مواجهة الخصم.

يركز الرئيس أردوغان في حملته الانتخابية على منافس واحد هو مرشح "الشعب الجمهوري" محرّم إينجة، رغم أن هناك 4 مرشحين منافسين آخرين. ذلك أن ثلاثة منهم -دميرطاش وكاموللا أوغلو وبيرينتشاك- لا يملكون فرصاً حقيقية في المنافسة، لكن ماذا عن ميرال أكشنار التي تملك فرصةً ما في المنافسة، والتي تُظهرها بعض استطلاعات الرأي (أقلية منها على أي حال) في المركز الثاني؟

بالتأكيد، إن حسابات الربح والخسارة هي الأساس، وإن كون إينجة هو المنافس الأبرز لأردوغان وضعه في هدف الأخير، لكنَّ ثمة سبباً لا يقل أهمية -فيما يبدو لي- متعلقاً بالكتلة التصويتية لكل منهما ولأكشنار، حيث يستطيع أردوغان مواجهة ومهاجمة إينجة وخلفيته الفكرية والسياسية وتاريخ حزبه (الشعب الجمهوري) بأريحية كبيرة؛ بل ويفيده ذلك في تثبيت كتلة المحافظين بصفه، بينما سيكون ذلك أصعب في حال مواجهة أكشنار، القومية اليمينية.

من جهته، أدرك إينجة، أحد صقور "الشعب الجمهوري" والتيار العلماني المتشدد فيه، أن الخطاب العلماني الحاد سيُفقده أصوات المحافظين، التي يحتاج لها بشدة إن كان جاداً في منافسة أردوغان؛ ولذا فقد بدا كمن بدَّل جلده ويتحدث عن حرية الحجاب، ويرتاد المساجد في صلوات الجُمَع، وينتهج خطاباً متصالحاً مع الدين.

كما يعلم الرجل أن سقف الخطاب الحاد والتراشقات الإعلامية ساحةٌ يملك فيها أردوغان باعاً طويلاً وتفوُّقاً ملموساً؛ ولذا فرغم المهارات الخطابية التي يُعرف بها، فقد تخلَّى منذ بدء الحملة الانتخابية عن خطابه الحاد -المعروف به- في مواجهة أردوغان و"العدالة والتنمية"، وباتت كلمة "السيد" تسبق اسم أردوغان أو أي مرشح آخر في حديثه، وينطبق الأمر نفسه على أردوغان وبقية المرشحين.

من جهتها، تدرك أكشنار أن فرصها ضعيفة في ظل وجود أردوغان ومنافسه إينجة، وأن فرصتها تكمن في كسب أصوات القوميين والمحافظين، واستثمار كونها أول امرأة تترشح لمنصب رئاسة الجمهورية في تاريخ تركيا. ولذا فخطابها موجَّه بالأساس إلى رئيس حزب الحركة القومية دولت بهجلي وبدرجة أقل أردوغان، وثمة جهد كبير مبذول من طرفها لإعطاء انطباع "المرأة القوية" أو "المرأة الحديدية" كما سُميت، وإثبات أنها قادرة على مقارعة الرجال وجديرة بالمنصب؛ ولذا يبدو خطابها الأكثرَ حدةً بين المرشحين بشكل ملحوظ.

باختصار شديد، تبدو الحملة الانتخابية هادئة الخطاب نسبياً، ولكنه هدوء سطحي يُخفي سخونةً شديدةً في حيثياتها ووقائعها ومنافستها الحادة؛ ولذلك ينسج كل مرشح استراتيجيته في حملته الانتخابية بما يزيد من فرص نجاحه ويرقُب فرص المنافسين، ويتناغم مع حقائق تركيا وخرائطها الفكرية والسياسية، في ظل إدراك الجميع ألا شيء مضموناً وأن القرار الأول والأخير سيبقى للناخب في الرابع والعشرين من الشهر الجاري (يونيو/حزيران 2018).

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس