وسام الكبيسي - خاص ترك برس

لا شك أن الاقتصاد التركي حقق قفزات سريعة خلال عقد ونصف من الزمن نقلته من مصاف الدول المتعثرة والمدينة الى مصاف أكبر عشرين اقتصاد في العالم، وهذا يحسب ولا شك لصناع القرار التركي وعلى رأسهم حزب العدالة والتنمية وقائده السيد رجب طيب أردوغان.

وبمقدار ما يبدو من امتعاض وتربص من بعض القوى الإقليمية والدولية في وجه هذه التجربة، عبرت عنه تلك القوى بمحاولة التأثير على الاقتصاد التركي، عبر إطلاق الإشاعات، والضغط عن طريق المضاربات الدولية والتلاعب بالمؤشرات، وذلك بهدف تقليل حجم المكاسب التي حققها، للتأثير على قرار الناخب التركي، فإن هناك بعض العوامل الداخلية التي قد تكون وفرت بيئة مساعدة لتعميق تأثير تلك الأيدي الخارجية على الوضع الاقتصادي في تركيا.
من بين تلك العوامل الداخلية؛ البيروقراطية، ورفع معدل الفائدة، وزيادة نسبة الواردات إلى الصادرات، ورفع وتيرة الاعتماد من قبل القطاع الخاص والحكومي على الديون الخارجية.

قبل الحديث عن بقية العوامل ينبغي الحديث عن أول تلك العوامل الداخلية، وهو وجود نسبة من البيروقراطية تقلل من انسيابية تدفق وحركة رأس المال الخارجي في القطاع الاستثماري، حيث لا يزال الكثير من المستثمرين من خارج تركيا يشتكي من هذه البيروقراطية وأثرها على فعالية الاستثمار.

وهنا لا بد من الإشارة الى أن قوة الإقتصاد في أي بلد تأتي من تظافر ثلاث بيئات، البيئة الاستثمارية (الخامات الأولية والعمالة والبنية التحتية والأذرع التمويلية والموقع الجغرافي والسمعة الدولية للمنتجات...)، والبيئة القانونية، والبيئة الإدارية.
البيئة الاستثمارية بيئة جيدة في تركيا ولكن لا تواكبها بيئة قانونية جيدة، أما البيئة الإدارية فإنها لا تزال ضعيفة - ويختلف ذلك من محافظة الى أخرى - وهذا يتطلب مراجعة حقيقية ووضع حزمة قوانين ولوائح إدارية لتقليل "البيروقراطية" وتحقيق نسبة عالية من الوضوح والشفافية تشجع المستثمر على المضي قدما في قراراته.

وقد يكون إنشاء مؤسسة ترتبط مباشرة برئاسة الجمهورية، تتبعها دوائر في كل المحافظات يتواجد فيها ممثلون عن كل الوزارات والدوائر المعنية بالاستثمار أمرا جيدا للتقليل من البيروقراطية.

تشجع القوى الاقتصادية الدولية وحتى بعض حكومات الدول، سلوكيات تساعد على حصول دورات من التضخم والانكماش، وبدلا من سعي تلك الدول والمنظمات الى التقليل من التضخم ومعالجة أسبابه وآثاره كما كان الأمر قبل عقود، فقد نحت مؤخرا إلى التكيف مع التضخم والاستفادة من آثاره، وتحقيق بعض المكاسب من خلاله، وفي حالة اقتصاد كالاقتصاد الأمريكي، فهو لا يخسر شيئا من انخفاض القيمة الشرائية للدولار، فهو يقوم بتكثيف التعاقد على الواردات في زمن القوة الشرائية، ويقوم بتسديد بعض ما عليه من ديون خارجية - هي الأكبر عالميا - عندما تضعف القوة الشرائية، فيستفيد في كلا الحالتين.

ويمثل عامل الحفاظ على القدرة الشرائية للعملة الوطنية، وخفض الفوائد البنكية في نفس الوقت هاجسا مهما وهدفا يسعى صناع القرار في تركيا للوصول إليه، ويرى الطرف المنافس لأردوغان أن ذلك غير ممكن، لأنهما عمليتان نقديتان متعارضتان لا يمكن الجمع بينهما، وهذا صحيح نسبيا وفقا للتجارب العملية في الاقتصاد الغربي فقط، إذ حتى نظريات الاقتصاد الغربي تحكم بإن خفض التضخم مرهون بخفض الفائدة، وهذا هو جوهر نظرية كينز الذي يرى "إن سعر الفائدة كان طريقا دائريا roundabout للتأثير في النشاط الاقتصادي، ومنفعته العملية قليلة" (جون كينت جالبرت، أضواء جديدة على الفكر الاقتصادي، ص248).

من بين أكثر الأسباب التي تؤدي الى حدوث دورات التضخم هي المضاربات الدولية في سوق العملات، وهنا نجد أن ارتفاع أسعار الفائدة في أي بلد تغري الأذرع الدولية على زيادة حدة المضاربات ورفع وتيرة الشائعات لتحقيق أعلى هامش من الأرباح مما يحقق فوائض لدى المضاربين يقابله عجز لدى الدولة المستهدفة، خصوصا أن تبادل العملات أسرع وأقل تكلفة من تبادل السلع، حيث نرى أن التبادل اليومي في العملات يمثل عشرات أضعاف التبادل اليومي التجاري (السلعي على وجه الخصوص).

لذلك فإن التفكير الجدي الذي تنطلق منه القيادة التركية مستقبليا والقائم على فكرة تقليل الفائدة لأدنى حد ممكن هو تفكير منطقي ويتوافق مع كل النظريات الاقتصادية الرصينة، ذلك أن المعالجات التي يقدمها البنك المركزي برفع معدلات الفائدة، وإن ساهمت في كبح جماح التضخم على المدى القريب، فإنها ستأتي بنتائج عكسية على الاقتصاد التركي على المديين المتوسط والبعيد، فبالإضافة لتشجيع المضاربات الدولية، ستغري الفائدة المرتفعة رأس المال المحلي على التوجه نحو الإيداع في البنوك للاستفادة من هامش الفائدة (الآمنة نسبيا) بعيدا عن الاستثمارات الحقيقية وما تحمله من مخاطر، وإذا حصل ذلك سيدخل الاقتصاد في دورة الانكماش وتزداد البطالة وينخفض مستوى دخل الفرد، مما ينعكس سلبيا على دورة السوق وقانون العرض والطلب.

يوم دخلت اقتصادات دول النمور الاسيوية في حالة ركود اقتصادي قبل عقدين من الزمان، أبدى صندوق النقد الدولي استعداده لإقراض هذه الدول ومن بينها ماليزيا، ووفق شروط قاسية نوعا ما، ولكن محاضر محمد رئيس الوزراء الماليزي رفض هذه الشروط وطبق شروطا أدت إلى المحافظة على نمو ماليزيا الاقتصادي ولو بحده الأدنى، فعمل على تحجيم الفساد وإصلاح الجهاز الإداري للدولة، ومحاربة المضاربة على عملتها في الخارج، وفي أقل من عامين نجحت ماليزيا في النهوض من كبوتها.

في مقابل رفع أسعار الفائدة - كمعالجة للتضخم وانخفاض سعر العملة - التي لا تستفيد منها إلا منظومات المراباة الدولية والمحلية، يمكن البحث عن خيارات وبدائل تقدم معالجات من زوايا متعددة يستفيد منها المواطن والمجتمع على السواء.

ويقوم ذلك على رباعية تقليل الاستهلاك وتعظيم الادخار ومحاربة الاكتناز وتوفير وتسهيل قنوات الاستثمار. وتعد الشراهة في الاستهلاك صفة مذمومة في الإرث العالمي عموما، وفي إرثنا الحضاري والثقافي خصوصا، وهذا السلوك يتسبب في حرمان السوق من كفاءته التشغيلية، لذلك فإن الخطوة الأولى تكمن في وضع خطة لترشيد الاستهلاك في تركيا، عبر خطاب مستمر في وسائل الإعلام والمدارس والجامعات وغيرها يكشف مزايا الترشيد على الفرد والمجتمع من جهة، وعبر قوانين وتشريعات تعمل على تقليل الاستهلاك الضار.

من ذلك أن يصار الى فرض نظم ضريبة مبيعات مرتفعة على بعض السلع غير النافعة كالدخان والمشروبات الكحولية، وكذلك فرض نظم ضريبية من قبل البنك المركزي على البنوك العاملة بهدف تقليل الاقراض الاستهلاكي وحصره بالحد الأدنى والحاجات الحقيقية، وتشجيع الإقراض طويل الأجل على حساب الإقراض قصير الأجل حيث ينحو الأول عادة صوب الاستثمار، وينحو الثاني صوب الاستهلاك.
إن تثقيف المجتمع على أهمية نبذ ظاهرة الاكتناز كونها ستقلل من فرص حركة رأس المال في الانتاج الحقيقي من جهة، وتتسبب في تآكل قيمة العملة نتيجة التضخم من جهة أخرى، أمر مهم وحيوي، خصوصا أن زيادة حجم الانتاج الحقيقي يقلل من ضغوطات الطلب الخارجي والمضاربات الدولية على العملة، ولكن يجب أن يواكب محاربة ظاهرة الاكتناز توفير قنوات استثمارية عالية الأمان، وذلك بهدف رفع كفاءة استخدام الموارد المالية، والمحافظة على مدخرات الطبقة الوسطى من التآكل بفعل انخفاض القيمة الشرائية للعملة.

ستخلق الدورة الادخارية - الاستثمارية المكتملة وفرة من العملة المحلية تقلل من ضغوط العملات الأجنبية، وتوفر وعاء بديلا يقلل من حجم الديون الخارجية، ولكنها إن وجهت الوجهات الصحيحة فستعمل كذلك على معالجة الكثير من عوامل التضخم، فمعلوم أن من أسباب ثبات قيمة النقد أن تكون النسبة بين النقود المتداولة وكمية السلع والخدمات المنتجة ثايتة، ومعلوم أيضا أن أحد مؤشرات القيمة الخارجية للنقود هو موقف الصادرات والواردات، وفي نظرة سريعة الى هذا المؤشر نجد أن واردات تركيا لا زالت أكثر من صادراتها، وهذا عامل مؤثر على القيمة الخارجية لليرة التركية.

إذا استثنينا استيراد الوقود - وهو يأخذ حجما كبيرا من بند الواردات ويحتاج الى معالجات طويلة الأمد - فإن على الجهات المعنية في القطاعين الحكومي والخاص التفكير جديا في حصر المواد الأولية والسلع الوسيطة والنهائية المستوردة من الخارج، والتفكير بتوفير بعضها أو انتاجها محليا أو توفير بدائل عنها، لخفض ميزان الواردات في مقابل الصادرات من جهة، وتوفير فرص عمل جديدة وتقليل البطالة داخل تركيا من جهة أخرى، ويمكن هنا اقتراح وضع قوانين تشجيعية للمواد التي سيتم تصنيعها محليا، أو ضريبية على المواد المستوردة.
من المهم صدور قرار يقضي بتشجيع توفير بعض هذه المواد محليا، حتى لو اضطرت الدولة لتحمل جزء من، أو كامل فارق التكلفة بين الاستيراد والانتاج المحلي مؤقتا، علما أن ولوج أي ميدان بعد دراسة مستفيضة، سيؤدي إلى تراكم الخبرات والمهارات وتقليل التكاليف بمرور الوقت.

يمكن أن يصار أيضا الى عمل تعاقدات طويلة الأمد مع بعض الدول المالكة للمواد الأولية، تقضي بالمقايضة المباشرة بين المواد الأولية التي تملكها تلك الدول، والسلع النهائية التركية التي تحتاجها أسواق تلك الدول وفق أسعار تفاوضية، وهنا سيكون إدخال جزء من أوعية مدخرات الطبقة الوسطى في هكذا عمليات عالية الأمان أمرا مفيدا أيضا للفرد والاقتصاد التركي عموما.

من المجالات التي يحتاج الاقتصاد التركي ولوجها أو التوسع فيها في المرحلة القادمة هي المنتجات عالية التكنلوجيا، وتطبيقات تقنيات "النانو" (nano technology) وتقنيات التكنلوجيا الدقيقة (micro technology) واستقطاب بعض براءات الاختراع ذات الجدوى الانتاجية.

إن توجيه المدخرات نحو الاستثمار الحقيقي بدلا من رفع معدل الفائدة كفيل بتنشيط الدورة الاقتصادية ورفع كفاءة رأس المال والاقتصاد عموما، ويبدو أن فريق السيد أردوغان عازم على ذلك، في مقابل قراءة أخرى ترى الحل في رفع الفائدة، مع ما يحمله من مخاطر مستقبلية على الاقتصاد التركي تنذر بوقوعه تحت دائرة الضغوط الخارجية ودورة التضخم والانكماش.

ولكن يبقى هناك حديث عن أثر المؤشرات الدولية، والمضاربات الخارجية على العملة المحلية، والتوسع في الإئتمان وخلق النقود، وربط العملة بالدولار لتسوية المعاملات الدولية وغير ذلك من عوامل خارجية مؤثرة على الاقتصاد الداخلي، وهي تحتاج الى تفصيلات وربط بين القوانين الاقتصادية، وذلك ما سيتم تناوله بالتفصيل في بحث مستقل وموسع بإذن الله.

عن الكاتب

د. وسام الكبيسي

(كاتب وباحث عراقي)


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس