ياسين أقطاي - يني شفق

لقد قلنا إنّ ما يبدو أنه قد حدث للصحفي السعودي جمال خاشقجي؛ ليس شيئًا موجهًا نحو شخصه فحسب، بل عملية تستهدف تركيا في الوقت ذاته. وأمّا الحقيقة الجديدة التي ظهرت خلال اليومين الماضيين هي أنّ العالم الحر والشريف قد أخذ على عاتقه الكشف عن ملابسات هذه الجريمة.

لقد أفضت هذه الواقعة الوحشية والهمجية إلى رد فعل كبير متوقع في العالم بأكمله. كنا قد سألنا عن كيفية التستر على هذه الحقيقة، لكن يبدو أنّ اسم خاشقجي وما حدث له سيتحول إلى رمز لطلب تغيير كبير على مستوى العالم، بالضبط كما لم يستطع المتورطون في اختفائه في التستر على أي شيء، بل إنهم لم ينجحوا في شيء سوى إظهار كل شيء بتفاصيله عيانًا بيانًا.

كان خاشقجي قد نبه خطيبته التركية السيدة خديجة عندما دخل القنصلية مطالبًا إياها بأن تبلغني أنا والصحفي التركي الآخر توران كشلاكجي في حالة عدم خروجه. لكن ما كشفته الأحداث إلى الآن أنه عندما وصلنا هذا الخبر كان – للأسف – قد فات الأوان، لم تسنح لنا فرصة حمايته وفعل شيء بينما كان لا يزال على قيد الحياة. وهذا – في الواقع – يزيد حجم الأمانة التي حمّلنا إياها. لقد عجزنا عن إيقاف اختطاف الصحفي الذي أتابع أفكاره ومواقفه بتقدير وتصويب، أو قتله بطريقة وحشية (وإن كنا نحاول المحافظة على بعض التفاؤل إلى الآن). فحالة الحرج الذي وضعنا فيها من عدة زوايا وصلت إلى أبعاد لا يمكن وصفها. بيد أنّ الأمانة التي تركها لنا لم تكن حياته فقط، بل كان كفاحه الذي كان مهتمًّا به أكثر من حياته:

تعزيز حقوق الإنسان في العالم الإسلامي، تطور الديمقراطية، ضمان حرية التعبير وسائر الحريات الأخرى، الاهتمام بشرف الإنسان كما يستحق، القضاء على الفساد، ضمان الشفافية في إدارة الدولة...

ولا ريب أن إزعاج خطاباته التي كان يلقيها وهو يركز على كل هذه القيم للبعض أمر لا مفر منه. فنحن – في الحقيقة – أزعجناهم وسنواصل إزعاجهم كذلك مستقبلًا. لقد كان يتابع بنفسه بتقدير وفرحة كبيرة المسافة التي قطعتها تركيا في هذه المسائل، لكنه لم يكن يتوانى عن توجيه النقد اللازم لجوانب النقص التي لا تزال تعاني منها تركيا في هذه المسائل أيضًا. غير أنّ انتقاداته لم تكن مزعجة، لأنها كانت مخلصة، لم تكن ذات نية سيئة، بل كانت بناءة، لم تكن عدائية، بل كانت محبة وصادقة. وفي الواقع كانت انتقاداته إلى حكام بلاده على هذا النحو أيضًا، لكنهم كانوا منزعجين. فنقص الإخلاص وسوء النية والخصومة لم تكن هذه المرة لدى خاشقجي، بل كانت لدى من ينتقدهم.

يبدو أنّ أكثر انتقادات خاشقجي التي تسببت بانزعاج المسؤولين في الرياض كانت تلك الموجهة إلى الاعتقالات التعسفية التي طالت مؤخرًا مثقفين وعلماء دين وصحفيين في بلده. ولعلمه بأنه لم كان قد بقي في السعودية لكان قد اعتقل، فكان يقول إنهم يحاول دفع ثمن حريته، ولو القليل منه، من خلال الحديث عن أوضاع هؤلاء المعتقلين بظلم وتعسف.

وفي الحقيقة يجب أن نتحدث بشكل أكثر تفصيلًا في هذا الصدد، بمناسبة ما حدث له، بوصف ذلك أمانة تركها لنا. لأنه كان يؤمن بأن الصمت ليس جائزًا في هذا الشأن.

إنّ الطريقة التي تتبعها الإدارة السعودية اليوم لتكميم أفواه معارضيها تحولت إلى قضية دولية خطيرة. فالمسألة خرجت من كونها قضية داخلية لإحدى الدول. فاعتقال مجموعة من أبرز علماء الإسلام الذين لهم بصمة كبيرة في العالم الإسلامي، دون أي سبب واضح، واحتجازهم في ظل ظروف سجن قاسية يدمي قلوب العالم الإسلامي بأسره.

إن السجن التعسفي بدون أي حجة لمجموعة من أبرز العلماء من أصحاب الشهرة والصيت الكبير في العالم الإسلامي، من أمثال سلمان العودة وسفر الحوالي اللذين يعانيان من أمراض بالجملة، لا يعتبر مسألة داخلية سعودية، بل قضية تهم المسلمين كافة.

لقد كان أكثر موضوع ينتقد خاشقجي فيه الرياض هو اعتقال العالم الكبير عبد العزيز الفوزان، الذي انتقد بدوره اعتقال أو تكميم أفواه العلماء لانتقادهم الإصلاحات التي قامت بها السعودية، وسجنه ليس من المحدّد مصيره. وأما إجباره على دفع ثمن هذه الانتقادات بهذه الطريقة فيلفت الانتباه بشكل صادم إلى أن الأمور في السعودية لا تسير أبدًا على ما يرام في هذه المرحلة.

ويظهر أنّ الإعلام السعودي كان مستعدًّا في بداية الأحداث تصوير اختطاف خاشقجي، في أفضل الأحوال، أو مقتله، في أسوأ الأحوال، على أنه نجاح عملية استخباراتية. ولا شك أنّ ثمة وضعية فاسدة اختلط بها كل ما هو صحيح وخاطئ في نقطة ما. وقد نشرت وسائل الإعلام في السعودية في الساعات التي اختفى فيها خاشقجي خبرًا يفيد بالقبض على مطلوب بالتعاون مع الإنتربول.

أولا الإنتربول ليس لديه سجل بحث عن خاشقجي، وثانيًا فإنّ هذه الواقعة ليس بها أي جانب لنجاح أي عملية أو عمل مخابراتي. يمكن لإنسان أعزل يدخل قطعة من أرض بلده وهو يثق بالعاملين في القنصلية أن يتعرض في هذه اللحظة لأي شيء، لكن هذا لا يعني أنّ هذا الشيء يعتبر نجاحًا مخابراتيًّا.

إنهم لم يلقوا القبض على خاشقجي من مكان كان يختبئ به لينقلوه إلى مكان آخر في صمت وتكتيم، بل إننا أمام عمل لا يقوم به إلا فريق من المبتدئين الذي تكشف أفعالهم نواياهم بكل سهولة.

فلو طرح سؤال بعد كل ذلك ليقول "ماذا كان ذنب جمال خاشقجي؟"، فلنجب: كان ذنبه الثقة.

وثِق في البداية بأنّ مواطني بلده لن يستطيعوا أن يفعلوا معه هذا الأمر. كما وثِق بمستوى العلاقات السعودية – التركية التي اجتهد كثيرًا من أجل تطويرها. وثِق بأنّ الجانب السعودي لن يضحي بإفساد هذه العلاقات. وثِق بأنّ شيئًا كهذا لو حدث في كل مكان بالعالم، فإنهم لن يستطيعوا فعله داخل تركيا.

والأهم من ذلك أنه وثق بأنه لن يلحق به أي ضرر عندما يدخل كضيف أعزل إلى جزء من أرض بلده في الخارج. لأنه وثق بتقاليد بلده. وثق بأنّ بني جلدته لا يمكن أن يكونوا قد فسدوا إلى هذا الحد وانسلخوا عن عاداتهم وأعرافهم وتقاليدهم إلى هذه الدرجة.

فهل الثقة تعتبر ذنبًا؟

لا شك أنه لو كان قد دفع ثمن هذه الثقة بهذه الطريقة في الدنيا، فإنّ هناك عقوبة أخرى سيحكم بها الله في المحكمة الإلهية.

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس