محمود عثمان - خاص ترك برس

وسط حشد إعلامي كبير، تمت المناظرة الكبرى، بين مرشح حزب العدالة والتنمية بن علي يلدرم رئيس الوزراء ورئيس البرلمان السابق،  ومرشح حزب الشعب الجمهوري، أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية بيليك دوزو أحد بلديات إسطنبول الفرعية.

جاءت المناظرة بينما تستعد إسطنبول لإجراء انتخابات رئاسة المدينة مرة ثانية بين المرشحين، بعد أن أسفرت الانتخابات الأولى في 31 آذار/مارس، عن نسبة متقاربة للغاية بين المرشحين، بلغت 48.77% لإمام أوغلو، و48.61% لرئيس الوزراء السابق بن علي يلدرم.

وأمرت اللجنة العليا التركية للانتخابات في 7 أيار/مايو، بإلغاء نتائج الانتخابات التي أجريت في 31 آذار/مارس وإعادة إجرائها في 23 حزيران/يونيو، بسبب انتهاكات مؤكدة شابت العملية الانتخابية.

المناظرة بدأت هادئة وتقليدية، إذ سئل المتنافسان عن برامجهما بخصوص تخفيض أسعار فواتير المياه والكهرباء للمواطنين وتكلفة المواصلات العامة وطرق توسيع المناطق الخضراء والغابات في إسطنبول وخطط تطوير شبكات المواصلات.

استمرت المناظرة، التي ظهر فيها المرشحان لأول مرة في برنامج تليفزيوني مشترك، أداره الإعلامي إسماعيل كوجوك كايا، ونقلته معظم وسائل الإعلام التركية، على مدى نحو ثلاث ساعات متواصلة، وجَّه خلالها مدير الحوار 18 سؤالاً إلى كل من المشتركَيْن، قبل أن يترك لكل منهما كلمة أخيرة في النهاية.

** فضيحة اللقاء المسبق لمدير المناظرة بإمام أوغلو

حاول مدير المناظرة اسماعيل كوجوك كايا أن يظهر بمظهر العادل في تقسيم الوقت وتوجيه الأسئلة للطرفين، وبدا دقيقا وحساسا في مسألة تقسيم الوقت لدرجة حساب الثواني، لكن انحيازه لصالح إمام أوغلو لم يكن خافيا. إذ حاول منذ بداية الحلقة استفزاز بن علي يلدرم بسؤاله عن أسباب إخفاقه في انتخابات إزمير، بالرغم من مرور عشرة أعوام عليها، بينما بدت أسئلته لأكرم إمام أوغلو غاية في البساطة والسطحية، وكأنه يمرر له الكرة ليسجل الهدف بسهولة، وكأنه يمهد له من خلال السؤال الرد على الأسئلة والشبهات التي طرحت ضده.

** أمثلة على انحياز مدير المناظرة اسماعيل كوجوك كايا لصالح إمام أوغلو

كوجوك كايا يسأل إمام أوغلو عن شتمه لوالي مدينة أوردو، فيكتفي منه بالقول بأنه لم يشتمه، بالرغم من وجود فيديوهات وأدلة مؤكدة على ذلك.

بن علي يلدرم يسأل منافسه عن قراره بنسخ داتا البلدية، وتكليفه لثلاثة أشخاص من خارج البلدية بهذه المهمة وهذا مخالف للقانون، فيرد إمام أوغلو بأنه كان ينوي الاحتفاظ بها كنسخ احتياطية، علما بأن عملية الاحتفاظ بالنسخ الاحتياطية والأرشفة أمر روتيني يجري في جميع المؤسسات العادية الصغيرة، فضلا عن بلدية بحجم دولة.. يحتج بن علي يلدرم على الجواب، ويذكره بأن الأمر انتقل للقضاء، لكن كوجوك كايا لا يعير لذلك أدنى اهتمام.

يوجه كوجوك كايا سؤالا لإمام أوغلو عن علاقته بالكيان الموازي، فينفي إمام أوغلو أي علاقة له بهم نفيا قاطعا، مؤكدا أنه لم يلتق بهم ولم تجمعه معهم أية مناسبة، بالرغم من وجود صور وفيديوهات تثبت بأنه كان معلقا رياضيا في التلفزيون التابع للتنظيم قبل إغلاقه.. هنا أيضا لا يعلق كوجوك كايا ولو بكلمة واحدة !.

في فقرة الوعود الانتخابية، يبدأ إمام أوغلو بإطلاق الوعود الخرافية، مدللا على إنجازاته في بلدية بيليك دوزو.. لم يكلف كوجوك كايا نفسه بسؤاله عن وعوده بإنشاء 13 روضة أطفال، التي لم ينفذ سوى روضة واحدة !.

انتظرت الجماهير أسئلة مباشرة محرجة، تتناول مسائل عميقة أساسية، لكن دون جدوى، فقد كان مدير المناظرة كوجوك كايا مرتبكا ومنهمكا بقضايا شكلية مثل ضبط الوقت بالثواني، مما جعل المناظرة باردة رتيبة لم تقدم للمشاهد جديدا يذكر.

** الموقف من اللاجئين السوريين

سؤالان هامان تناولان الشأن السياسي، مسألة السوريين في إسطنبول وأصوات الناخبين الأكراد فيها. قدم كل متناظر إجابات عامة تتوازى مع رؤية حزبه. انتقد إمام أوغلو سياسة حكومة حزب العدالة والتنمية بخصوص إدارة ملف السوريين، محاولا استدراج خصمه لتكرار الحديث عن مسألة ترحيل المخالفين ومن يخل منهم بالأمن أو يهدد راحة سكان المدينة، شدد بن علي يلدرم على سياسة حكومته في التعامل مع الملف من منظور إنساني، مشيرا إلى أن وجود السوريين في تركيا حالة استثنائية وليست دائمة، وجاء تحت بند الحماية المؤقتة، وأن تركيا نجحت في تهيئة الأجواء المناسبة لعودة قسم منهم إلى بلادهم بعد أن يزول الخطر وتستقر الأمور هناك.

إمام أوغلو تعهد من جهته بإيجاد حل جذري لمشكلة السوريين في إسطنبول، بحيث لا يشعر المواطن التركي أن هناك من يهدده في رزقه.

** الضربة شبه القاضية أتت في اليوم التالي للمناظرة

أدى غياب المضمون العميق للحوار، إلى تحول الأنظار نحو شخصية المتناظرَيْن، حيث ظهر بن علي يلدرم رجل دولة رصيناً، هادئا متزنا، بطيئاً إلى حد ما لكنه واثقا من نفسه، ذو مصداقية في حديثه. مقابل لباقة وهدوء مصطنع لدى أكرم إمام أوغلو، الذي تميز أداؤه بالسرعة والحماسة، والاستعداد الجيد المسبق، فقد كان لديه منشوراً ووسيلة إيضاح لجميع الأسئلة تقريبا، مما أثار الشكوك حول تلقيه الأسئلة مسبقا.

على ذكر الحصول على الأسئلة مسبقا، لا بد من الإشارة إلى أن سرقة أسئلة الامتحانات، وإعطائها لأشخاص محددين، هي طريقة وأسلوب الكيان الموازي في الوصول للمناصب العليا والمواقع الحساسة داخل الدولة التركية.

في الظاهر بدا إمام أوغلو متقدما على خصمه، في موضوع الإسراف في إنفاقات البلدية، مستشهدا بتقرير هيئة الرقابة المالية، موضحاً أن الاقتصاد ومكافحة الفساد عمودان رئيسان في خطته لإدارة البلدية حال فوزه. لكن في اليوم التالي تبين أن تقرير هيئة الرقابة لا يحتوي على اتهام للبلدية بالإسراف وما سواه، إنما توصية/نصيحة بالاقتصاد في استخدام المال العام.

ادعى إمام أوغلو أن بلدية إسطنبول قدمت دعما لوقف يرأسه بلال نجل الرئيس أردوغان، لكن هذا الادعاء انقلب عليه، حيث يمنع القانون حاليا البلدية تقديم دعم للأوقاف، وتقديم المنح الدراسية للطلاب، بينما كان يسمح بذلك سابقا، وذلك بسبب اعتراض حزب الشعب الجمهوري لدى المحكمة الدستورية العليا.

كنا على وشك القول بأن المناظرة لم تسفر عن فائز واضح أو خاسر أكيد، ولم تنته المناظرة بالضربة القاضية، لولا سرعة سقوط ماكياج / طلاء الوجه لإمام أوغلو، وانكشاف زيف كثير من الأمور التي اعتمد عليها كدليل، إضافة إلى لقائه المشبوه المسبق بمدير المناظرة، مما منح خصمه بن علي يلدرم فرصة تسجيل الضربة القاضية، ولو متأخرا.

ربما لن يجني يلدرم جميع أصوات المترددين، لكنه نجح إلى حد كبير في المحافظة على تماسك كتلة ناخبي حزبه التقليدية.

نجح بن علي يلدرم بعفويته ورصانته، مقابل خفة خصمه وعجلته وأدائه المصطنع، في لملمة ما تفرق من أصوات كتلته الناخبة، ونجح في استرضاء وكسب تعاطف غالبية الساخطين منهم.

**هل من ناصح يخبر حزب العدالة والتنمية بأن الشعب لا يريد الاستقطاب السياسي ولا الخطاب القاسي

كنا سنقول بأن الكفة مالت بشكل واضح لصالح بن علي يلدرم، لولا عودة خطاب الاستقطاب وتخوين الآخر، التي عادت للظهور في خطابات الرئيس أردوغان.

بالتأكيد هناك في حزب العدالة والتنمية من يقيس نبض الشارع التركي. فلماذا الإصرار على خطاب الاستقطاب الذي يخون الخصم؟!

ألا من ناصح يقول لقيادة حزب العدالة والتنمية إن الشعب لا يريد الاستقطاب السياسي ولا الخطاب القاسي، ولن يصوت لمن يبدأ به ويتبناه.

ألا من شجاع بطل يقول لقيادة حزب العدالة والتنمية، إن نظرية "مسألة البقاء" قد أضرت بكم في الانتخابات الماضية، ولم ينتفع منها سوى حليفكم.

ألا من ناصح يقول لقيادة حزب العدالة والتنمية، إن بن علي يلدرم قادر على حسم المعركة الانتخابية في إسطنبول بمفرده، فخلوا له الميدان.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس