د. ياسر سعد الدين - خاص ترك برس

انتهت جولة الإعادة لانتخابات إسطنبول بنصر حاسم لمرشح المعارضة بعد فوز هامشي في الجولة الأولى. هي انتخابات بلدية ولكنها بطعم آخر وبنكهة مختلفة، فأكاد أجزم أنه لا يوجد في العالم انتخابات بلدية ولا حتى في أشهر أو أهم العواصم العالمية حازت على اهتمام وتغطية عالميتين كما حصل مع انتخابات إسطنبول وكأنها عاصمة العالم. وإذا لم يكن لأردوغان وحزبه من إنجاز سوى أن جعلوا من الانتخابات التركية بكافة أصعدتها ومستوياتها حدثا عالميا يستقطب اهتماما كبيرا ومتابعة حثيثة - الأمر الذي يعكس مكانة ودور تركيا الجديدة - لكفاهم ذلك الإنجاز والذي يعكس دورا تاريخيا كبيرا قام به وما يزال أردوغان.

لقد أظهرت دراسة حديثة، مسحية واسعة أجراها القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية و”أرب باروميتر” شبكة البحث في جامعة برنستون شارك فيها 25.000 شخص من دول عربية متعددة، أن 51% من المشاركين العرب لهم موقف إيجابي من الرئيس التركي أردوغان، الأمر الذي يؤكد مكانة الرجل كقائد وزعيم في العالم العربي والإسلامي. فلم يعد أردوغان زعيما لتركيا فقد أصبح قائدا للأمة، والأمة في حالة من الضعف والخور وصفقات وصفعات القرون ما يجعلها في أشد الحاجة لرجل مثل أردوغان. من هنا كانت شماتة الليكود العربي ومسوقي الهزائم وثقافة الخنوع وبيع الأقصى في انتخابات إسطنبول كبيرة ومدوية، لأنهم يحاربون في الرجل رمزية القيادة والرجولة والسيادة والندية ورفض التبعية أو التنازل عن المقدسات والثوابت وكرامة الأمة.

لقد تغير المجتمع التركي بعد حكم حزب العدالة بطريقة جذرية، حتى أن قيادات حزب الشعب العلماني والمعروف تاريخيا بعدائه للدين أصبحوا يتسابقون لزيارة المسجد وإظهار احترامهم للدين. كما إن أكرم إمام أوغلو الفائز بانتخابات إسطنبول ينحدر من أسرة متدينة ومحافظة من الناحية الاجتماعية ولها تاريخ في العمل السياسي، فوالده مؤسس فرع حزب الوطن الأم بزعامة تورغوت أوزال بطرابزون. حضر إمام أوغلو صلاة الغائب على أرواح ضحايا هجوم نيوزيلندا المسلمين، وقرأ في المناسبة آيات قرآنية، الأمر الذي يناقض تماما الصورة المعروفة عن حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي العلماني.

وعلى الرغم من الخسارة الكبيرة الرمزية لأردوغان للمدينة التي انطلق منها، فإن في تلك الخسارة وتسليمه بها وتهنئته لإمام أوغلو، نصرا أخلاقيا كبيرا وهي شهادة على أن الرجل مؤمن بتدوال السلطة لا كما يزعم خصومه وأعداؤه الكثر بأنه دكتاتور ومستبد، ليبرروا لأنفسهم محاربته بوسائل قذرة وغير أخلاقية كقائد ناجح حريص على نهضة بلاده واستقلال قرارها وسيادتها. كما إن انتخابات إسطنبول ورقيها رسخت مكانة الديمقراطية التركية دوليا وجعلتها في الصدارة عالميا، الأمر الذي يعد إنجازا كبيرا لأردوغان وحزبه ورفاقه.

تعودنا من أردوغان في مسيرته السياسية الطويلة على الاستفادة من المطبات التي يواجهها والتراجعات والتحديات إن كان من خلال مواجهته الذكية وتراجعاته التكتيكية أمام العسكر في بدايات حكمه حين كان للعسكر الصوت الأعلى والموقف الأقوى، أو من خلال تراجع حزبه انتخابيا كما حصل في انتخابات صيف 2015. لذلك فقد تكون انتخابات إسطنبول فرصة كبيرة للمراجعة العميقة وإعادة ترتيب الأفكار والصفوف، وإذا ما أخفق حزب الشعب في إدارته لإسطنبول أو كان أقل فعالية أو استنسخ تجربة العدالة فإن عودة حزب العدالة ستكون مدوية وقوية. وعلى الرغم مما يبدو في إسطنبول فوزا كاسحا للمعارضة، إلا أن الكتلة التي صوتت لإمام أوغلو غير متماسكة وما يفرقها أكثر بكثير مما يجمعها. فالأكراد على خلاف كبير مع حزب الشعب وما وحدهم بشكل آني مؤقت هو خصومتهم لأردوغان، في حين أن الكتلة التي صوتت لبن علي أكثر تماسكا وتجانسا خصوصا إذا نجح حزب العدالة في البقاء متماسكا.

الإنصاف يقتضي التنويه بأن عوامل خارجية متعددة واستهداف تركيا ومكانتها إقليميا ودوليا من خلال حملات إعلامية ومكائد اقتصادية ومضاربات الليرة وتحديات الوضع السوري والروسي والكيد الأمريكي انعكس على الوضع الداخلي مما أثر على مزاج رجل الشارع الذي يبحث عن الرفاهية. كما إن جيلا من الشباب نشأ في ظل إنجازات حزب العدالة ولم يعرف ما كانت تعانيه البلاد من فساد وسوء خدمات عبر جزء منه عن سخطه انتخابيا على الصعوبات الاقتصادية الراهنة  وتتدهور سعر الليرة.

شخصيا لا اعتبر أن الانتخابات الأخيرة ستكون بداية الانزلاق لأردوغان أو بداية النهاية لمسيرته السياسية، ولكن التحدي الأكبر هو في تجنب انشقاق حزبه من خلال تشكيل قيادات تاريخية إما غادرت الحزب أو توشك على ذلك لحزب جديد. المرجو من أردوغان أن يصغي للمخلصين من حزبه وأن يعيد قراءة رسالة داوود أوغلو بتأن وتدبر. المتأمل منه أن يبعد طبقة المنتفعين وأن يرفض تمجيده شخصيا سواء بإطلاق الأغاني له أو بأي طريقة أخرى وأن يبعد عائلته وأقربائه عن دائرة الحكم. المأمول فتح الباب أمام قيادات جديدة خصوصا الشابة حتى لا يكون حزب العدالة حزب الرجل الواحد، ينهض مع أردوغان ويمرض معه.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس