أسامة حساني - خاص ترك برس

السلطان محمد الثاني بن مراد الثاني بن محمد جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان غازي بن عثمان بن أرطغرل، سابع سلاطين الدولة العثمانية، وفاتح القسطنطينية.

ولد في السادس والعشرين من شهر رجب عام 833 للهجرة، الموافق 20 نيسان/ أبريل عام 1429م، في مدينة أدرنة عاصمة الدولة العثمانية حينها.

نشأ في كنف أبيه السلطان "مراد الثاني" الذي اهتم برعايته وتربيته عقلياً وجسدياً ودينياً، ومارس الأعمال السياسية منذ الحادية عشرة من عمره إذ نصّبه والده حاكماً على "أماسيا" ليكتسب الخبرة في إدارة الدولة، وأقام عليه خيرة علماء عصره مثل "أحمد بن إسماعيل الكوراني" الذي اشتهر بشدته. وقد أرسله السلطان مراد الثاني ليكون معلماً للفاتح بعد أن يأس العلماء من محاولات تعليمه القرآن الكريم، فدخل الشيخ الكوراني على الفاتح وفي يده قضيب فقال له "أرسلني والدك للتعليم، والضرب إن خالفت أمري"، فضحك الفاتح من ذلك التهديد، فضربه الكوراني ضرباً شديداً، واستطاع بعدها الفاتح أن يتم ختم القرآن في مدة وجيزة.

تولى حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده "مراد الثاني" في 16 من شهر محرم سنة 855هـ الموافق 18 شباط/ فبراير1451م، وكان عمره اثنان وعشرون عاماً.

من العلماء الذين كان لهم الفضل في تكوين شخصية محمد الفاتح أيضاً الشيخ "أق شمس الدين" الذي علّمه الفقه والرياضيات والتاريخ، وبقي إلى جانبه حتى بلغ أشده، فكان محبوباً لدى الفاتح. وقد عبّر عن احترامه له بقوله: "إن احترامي للشيخ آق شمس الدين، احترام غير اختياري، وإنّني أشعر وأنا بجانبه بالانفعال والرهبة"، ويعتبره البعض "الفاتح المعنوي للقسطنطينية" لما كان له من أثر عظيم في توجيه الفاتح وشحذ معنوياته وحثه على فتح القسطنطينية، من خلال تذكيره دائماً وإقناعه بأنه الأمل المقصود من حديث نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: "لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش". وفعلاً قد أثّر هذا في نفس محمد الثاني وبات حلماً يراوده مراراً وتكراراً إلى أن تمكن من فتح القسطنطينية عام 1453م، وبهذا تحققت فيه نبوءة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.

تعلق قلب الفاتح بالعلم والعلماء، فكان لا يكاد يخلو مجلسه من العلماء، وكان مهتماً بالشعر واللغات، وقد تحدث العديد من اللغات بجانب اللغة التركية فكان متقناً للغة العربية، والفرنسية، والعبرية، والفارسية، واليونانية، واللاتينية، والصربية.

تحدث الكثير من المؤرخين عن شخصية الفاتح وصفاته، ومكانته في ذلك العصر، فيقول المعاصر الإيطالي Zorzo Dolfin: "السلطان محمد الفاتح، يندر أن يضحك، ذكاؤه يعمل بصورة مستمرة، كريم جداً، عنيد وجسور وجريء في تصميمه، يتحمل البرد والحر والجوع والعطش، كلامه قطعي، لا يخشى أحداً، بعيد عن اللهو والمجون، يتكلم التركية واليونانية والصربية بصورة جيدة، ويجيد قراءة وفهم اللغات الأخرى، يعكف على المطالعة كل يوم مدة من الزمن،...".

كما اشتهر بالرحمة والتسامح، ويذكر له التاريخ ذلك حين دخل القسطنطينية بعد هزيمة البيزنطيين، يحف به جنده وهم يرددون "ما شاء الله"، فالتفت إليهم وقال: لقد أصبحتم فاتحي القسطنطينية، الذين أخبر عنهم رسول الله، وهنأهم بالنصر، ونهاهم عن القتل، وأمرهم بالرفق بالناس، والإحسان إليهم، ثم ترجل عن فرسه، وسجد لله على الأرض شكرًا وحمدًا وتواضعًا، ثم قام وتوجه إلى كنيسة آيا صوفيا، واجتمع بها خلقٌ كبير من الناس ومعهم القسس والرهبان، الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم، فلما اقترب من أبوابها خاف النصارى داخلها ووجلوا وجلاً عظيمًا، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له، فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان، فاطمأن الناس، وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة، فلما رأوا تسامحه وعفوه، خرجوا واعتنق بعضهم الإسلام، كما تعهد بعد فتح إسطنبول  ليهود المدينة ألا يتعرض لهم ولمعابدهم، كما اعترف بحقهم فى حرياتهم في ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية.

إن مدى اهتمام الدولة العثمانية بالعدل الاجتماعي، والتسامح الإنساني برز فى مذكرات الرحّالة الأوربيين الذين مرّوا بالأراضى العثمانية، فعلى سبيل المثال ما قاله غِبونس (Gibbons) فى ذلك: "وعندما كان اليهود يُقتَلون جماعيًا ومحاكم التفتيش تقضي بالموت عَلَنًا، كانت الإدارة العثمانية تمنح لمختلف معتنقي الأديان أمناً وسلاماً اجتماعياً".

امتاز عهد الفاتح بالإنجازات الكثيرة سواء كانت إنجازات عسكرية أو إدارية أو علمية جعلت منه قائداً جامعاً ذو بصمة خالدة في تاريخ الحضارة الإسلامية.

يأتي في مقدمة إنجازاته فتح القسطنطينية (إسطنبول اليوم) عام 1453م، وبذلك الفتح أنهى الدولة البيزنطية إلى الأبد، واعتبر المؤرخون فتح القسطنطينية خاتمة للعصور الوسطى وبداية العصر الحديث.

كانت فترة حكمه سلسلة من الحروب والانتصارات، إذ واصل الزحف شمال صربيا وشطراً من بلاد الأناضول والبوسنة والهرسك، ودمر جيش البندقية في اليونان، واجتاح مولدافيا والمجر وحاصر رودس.

كان له الإسهام الأكبر في تقوية الجيش العثماني وتطوير أسلحته، كما يعدّه المؤرخون مؤسس الأسطول البحري العثماني.

في الناحية الإدارية ينسب إليه ترتيب الحكومة المركزية بنظام جديد، وسن القوانين التي تنظم الإدارة المحلية والتي كانت مستمدة من الشريعة الإسلامية، ووضع أولى مبادئ القانون المدني وقانون العقوبات، فاستتب الأمن في عهده، وشاع العدل في أرجاء الدولة العثمانية.

أبدى الفاتح اهتماماً بالغاً في قضية التعليم، فبذل جهوداً كبيرة في إنشاء المدارس والمعاهد والمكاتب، وجعل التعليم في شتى بقاع الدولة العثمانية بالمجان، فازدهر التعليم في عصره. ويذكر المؤرخ الفرنسي P.Faure  فضل الفاتح في النهضة العلمية: "يبدأ عصر النهضة العلمية، مع فتح القسطنطينية في عام 1453م على يد الفاتح، فاتح، أحد أكبر حماة الإصلاح والنهضة العلمية الحديثة، إن عصر النهضة العلمية مدين بالكثير لتسامح الفاتح...".

إن إتقان الفاتح للعديد من اللغات، وإسهاماته فيما يخص المجال العسكري والعلمي والإجتماعي، ومعرفته العلوم الدينية بصورة خاصة، ودهاءه في الرياضيات، كل هذا جعل منه قائداً فريداً يحتذى به، وهذا ما جعل الكثير من المؤرخين يعتبره كأكبر شخصية أنجبها الأتراك طوال التاريخ.

وافته المنية في الثالث من أيار/ مايو عام 1481م، وهو في الثالثة والخمسين من عمره، وحسب ما ورد في كتب التاريخ فقد مات مسموماً على يد طبيبه الخاص "يعقوب باشا" بعد أن دفعه أهل البندقية على ذلك.

بعد 16 يوماً من وفاته وصل الخبر إلى البندقية على شكل رسالة كُتِب فيها "مات العقاب الكبير"، وراحت الكنائس في أوروبا تدق أجراسها لمدة ثلاثة أيام فرحاً بوفاة "هادم الإمبراطورية البيزنطية".

من وصية السلطان "محمد الفاتح" لابنه:

(ها أنذا أموت، ولكني غير آسف لأني تارك خلفاً مثلك. كن عادلاً صالحاً رحيماً، وابسط على الرعية حمايتك بدون تمييز، واعمل على نشر الدين الإسلامي، فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض، قدم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء، ولا تفتر في المواظبة عليه، ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمون بأمر الدين، ولا يجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش، وجانب البدع المفسدة، وباعد الذين يحرضونك عليها، وسع رقعة البلاد بالجهاد واحرس أموال بيت المال من أن تتبدد، إياك أن تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك إلا بحق الإسلام، واضمن للمعوزين قوتهم، وابذل إكرامك للمستحقين. وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظم جانبهم وشجعهم، وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال.

حذار حذار لا يغرنك المال ولا الجند، وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك، وإياك أن تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة، فإن الدين غايتنا، والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا.

خذ مني هذه العبرة: حضرت هذه البلاد كنملة صغيرة، فأعطاني الله تعالى هذه النعم الجليلة، فالزم مسلكي، وأحذ حذوي، واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير أهله ولا تصرف أموال الدولة في ترف أو لهو فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك).


مصادر:

- يلماز أوزوتونا "تاريخ الدولة العثمانية".

- علي الصلابي "الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط".

- محمد فريد بك "تاريخ الدولة العلية العثمانية".

عن الكاتب

أسامة حساني

محرر في وسائل التواصل الإجتماعي في ترك برس


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس