فهد الرداوي - خاص ترك برس

بدأت وتعلّقت... ولا تزال العملية العسكرية التركية في الشمال السوري تُثير ردود أفعال تراوحت بين تنديدٍ وتحذير من تداعياتها، لكونها تتم في منطقة تعجُّ بالاهتمام الدولي وتتنوع فيها أطراف الصراع والنفوذ، فكان الاستنكار الإيراني على لسان الوزير ظريف ودعوة الجانب التركي لاحترام سيادة دمشق على أراضيها، ثم تلاهُ موقفٌ رافضٌ للجامعة العربية يُطالب فيه بالوقف الفوري لهذا العدوان "على حد وصفه"، ثم تباينٌ في المواقف الأوروبية والأمريكية، ومضمون التخلي عن قوات قسد والتهديد بتدمير الاقتصاد التركي، لينتهي الأمر بتغريدة للرئيس الأمريكي ترمب قال فيها: "سوريا تبعد عن حدودنا 7 آلاف ميل ولا شأن لنا فيها وليدخل من يشاء للدفاع عنها حتى وإن كان نابليون بونابرت"، وهي إشارة واضحة لتلك التفاهمات الخفية التي قام بها الوفد الأمريكي الرفيع المستوى في شهر آب/ أغسطس الماضي، ثم استؤنفت المباحثات مجدداً برئاسة نائب الرئيس الأمريكي (مايك بنس) أمس الأول، ليفضي الأمر إلى إبرام اتفاقية "أنقرة" التي نزعت فتيل الأزمة وعلّقت العملية العسكرية وأعادت ترتيب أوراق المنطقة وفقًا للمصالح المشتركة على حد قول الرئيس الأمريكي دونالد ترمب والذي وصف تاريخ الاتفاقية هذه باليوم العظيم.

نبع السلام... الظاهر والمضمون

ربما كان توقيت انطلاق عملية نبع السلام (ظاهرًا يعكس مضمونًا) فالظاهر فيه أنها بدأت، والمضمون فيها هو الانسحاب الأمريكي من الشمال السوري قبل يوم واحد من بدء هذه العملية والذي تلاهُ إعلانٌ فرنسي وبريطاني بسحب قواتهما من شمال سوريا أيضًا، وهذا ما يعكس التفاهم النوعي الذي تمت المصادقة عليه بين الأطراف الدولية اللاعبة في الساحة السورية بصورة غير معلنة، واستخدام الفيتو الأممي (الأمريكي والروسي) ضد أي إدانة لهذه العملية خير دليلٍ على ذلك.

وبعيدًا عن التصعيد اللفظي الذي رافق بدء هذه العملية وتلك الدربكة السياسية الداخلية في أمريكا والتي لا تعدو عن كونها موادًا للاستهلاك السياسي والإعلامي، وقد يخطئ الكثير في بلورة مقاييس السياسة الخارجية الأمريكية باعتماد نظرية (المنطق الأحادي) المتمثلة بقرارات الرئيس الشفهية أو بالاستناد على تغريداته التويترية، وهذا أمرٌ خاطئٌ بالمجمل، فنظرية "المنطق الأحادي" غير موجودة في قواميس السياسة الأمريكية، ومفهوم الدولة العميقة ما زال وسيبقى مُرتكزًا أساسيًا في الولايات المتحدة، وذلك لارتباطه بالعمق الاستراتيجي التاريخي والمستقبلي للدولة الأمريكية مع معرفة تامة وبراعة عظيمة في إدارة ملفات النزاع الدولية، يكون المتغيّر فيها ثابتًا مهما كان مضمونه ويخدم المصلحة الأمريكية في الدرجة الأولى.

أما من ناحية الجانب التركي العضو الهام في حلف شمال الأطلسي فهو القاسم المشترك الاستراتيجي للولايات المتحدة وأوروبا وروسيا، وقد هيّأ الأتراك البيئة اللازمة والظروف الملائمة للتمحور الإقليمي، وساعدهم في ذلك الموقع الجغرافي والاقتصاد القوي والمتنوع والثروات الهائلة للنفط والغاز (المرتقب) في شرق المتوسط وتلك الشراكات الدولية التي عملت تركيا على تقويتها من خلال إبرام الاتفاقيات التجارية والصناعية، أما ما يخص شرق الفرات وغربه، فتركيا دخلت هذه العملية وفي جعبتها اتفاقية "أضنة" المبرمة دوليًا مع سوريا عام 1998م، والتي تسمح لها بالتغلغل لعمق يصل لـ30 كم داخل الأراضي السورية، هذه الاتفاقية التي أبرمها حافظ الأسد مع الدولة التركية بوساطةٍ مصرية تجنبًا للمواجهة العسكرية آنذاك.

استطاعت تركيا بكل هذه المعطيات أن تُعيد تعريف الأمن القومي كمفهومٍ وليس كملف، لتجعل من حدودها، حدودًا لدول الناتو أجمع ومصلحة عامة لجميع الحلفاء، لضمان شرايين التجارة البرية على طول الشريط الحدودي مع سوريا، وذلك من خلال إنشاء منطقة آمنة يعود إليها السوريين المهجرين في تركيا وأوروبا لإراحة نفسها من ملف اللاجئين وملف الأكراد الانفصاليين على حدودها الجنوبية، وهذا ما حصل بالفعل من خلال الاتفاق المبرم مع الإدارة الأمريكية والذي تمت المصادقة عليه بالأمس في العاصمة التركية أنقرة يقضي هذا الاتفاق بإبعاد قوات "قسد" مسافة 20 ميل باتجاه العمق السوري على طول الشريط الحدودي وتدمير كافة الأسلحة الثقيلة والمتوسطة التي تملكها قوات "قسد".

استيفاءٌ مشروع... أم تركُ الرقاب على المقصلة؟؟

  يُخطئ الكثير بمفاهيم التحالفات الدولية والتوازنات الاستراتيجية، فيأخذون على عاتقهم لعب دور المفسر العظيم أو اللاعب الجوكر، ويذهبون بعيدًا في تأملاتهم ويبالغون كثيرًا في تأويلاتهم ليصل بهم الأمر ويعتبروا أنفسهم شركاءً لهذا أو ذاك أو حليفًا مُهماً بمواصفات امتيازية دون النظر لرصانة المحاور أو لامتلاك أوراق التوازن وكيفية استخدامها أو العزف على أوتارها، أو في طريقة توظيف مكنونات القوة إن وجدت، وهذا ما حصل تمامًا مع (قوات قسد) التي وضعت نفسها رهن العرض والطلب في بازار الأمواج السياسية ولعبة المصالح الدولية.

ولكن الأمر سيكون مختلفًا بالتأكيد حين يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية، فيجب الحذر تمامًا بمفهوم صيغ التحالف معها، فهي الأقوى عالميًا ولا يُملى عليها، وحين اتُهمت أمريكا بالتخلي عن قوات قسد، جاء ردها الرسمي سريعًا على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب فقال لهم: "لقد قبضتم الثمن، وأمريكا لن تكون طرفًا في حروبٍ سخيفة ولن تُحارب عن أحد وعلى كل طرف أن يتدبّرَ أمره بنفسه".

وكأنَّ لسان حال الولايات المتحدة يقول: "ألا توريط ولا تبديد لأحلام الأكراد ومسألة إعادة مفهوم الحلفاء وطريقة بنائهم من حيث (التكلفة والخدمات) هو تقديرٌ أمريكي تتجانس به عقيدة السياسة والمصالح والحلفاء، وتتماهى مع متممات العمل السياسي وفق الأهداف الجيوسياسية والعسكرية والاقتصادية، التي تضمن المصالح العليا للولايات المتحدة الأمريكية."

عن الكاتب

فهد الرداوي

الأمين العام لتيار التغيير الوطني السوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس