سعيد الحاج - عربي 21

قد تبدو جملةً مكرورة أو "كليشيهاً" مستخدماً في أكثر من قضية إقليمية، لكن الحسابات التركية بخصوص الرد الإيراني المنتظر على اغتيال الولايات المتحدة لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني معقدة ودقيقة فعلاً.

فمن جهة، كان سليماني المايسترو والمنفذ الفعلي للأجندة الإيرانية في المنطقة وفي مقدمتها سوريا والعراق، الساحتين الأهم في إطار التنافس الإقليمي بين أنقرة وطهران. ورغم المؤسسية التي حرصت الأخيرة على إظهارها في سرعة اختيار خليفة له في قيادة الفيلق، إلا أن خسارتها أكبر من أن تَخفى أو تُخفى. ولعل في ذلك بعض الاستفادة التركية المتحصلة قدراً على المدى البعيد، خصوصاً في المشهد السوري الأكثر تناقضاً بين الرؤيتين التركية والإيرانية.

أكثر من ذلك، لم يكن ممكناً لتركيا العضو في حلف الناتو والتي تجمعها مع الولايات المتحدة شراكة استراتيجية منذ 1995 من جهة، والتي تعاني معها علاقات متذبذبة إجمالاً ومتوترة مؤخراً، أن تصطف إلى جانب طهران في الأزمة الأخيرة. ولعل ذلك ما صاغ بيان الخارجية التركية حول الموضوع بمفردات "موت" سليماني نتيجة ضربة جوية أمريكية وبدون "رفض" العملية الأمريكية أو "التنديد" بها، رغم أنه (أي البيان) أكد أن تركيا ضد الاغتيالات والتدخلات الخارجية.

كما كان لكل ذلك دوره في نفي مسؤول تركي (دون ذكر اسمه) استخدام اردوغان وصف "شهيد" عن سليماني، كما ذكرت بعض وسائل الإعلام نقلاً عن حساب السفارة الإيرانية في تركيا على تويتر، مؤكداً أن رئيس بلاده حثَّ نظيره الإيراني على تجنب التصعيد.

ليس من السهل على أنقرة تأييد عملية من هذا النوع أو حتى مجرد السكوت عنها، إذ تمثّل بتعبير الرئيس التركي انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي كعملية اغتيال لشخصية رسمية على أراضي دولة ثالثة، ويزيد من صعوبة الموقف الاعتراف الأمريكي الصريح بارتكابها

في المقابل، ليس من السهل على أنقرة تأييد عملية من هذا النوع أو حتى مجرد السكوت عنها، إذ تمثّل بتعبير الرئيس التركي انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي كعملية اغتيال لشخصية رسمية على أراضي دولة ثالثة، ويزيد من صعوبة الموقف الاعتراف الأمريكي الصريح بارتكابها. ذلك أن جنوح الولايات المتحدة لقرارات من هذا النوع خبر غير مطمئن لبلد مثل تركيا؛ تغلب على علاقاته معها الأزمات والتحديات وصولاً لمرحلة التهديد وفرض العقوبات، رغم أن العلاقات الأمريكية- التركية مختلفة إلى حد انتفاء المقارنة عن العلاقات الأمريكية- الإيرانية بطبيعة الحال.

الأهم بالنسبة لتركيا هو تداعيات الحدث وارتداداته التي يمكن أن تطال المنطقة بأسرها، وفي القلب منها تركيا، في ظل التصريحات الإيرانية المتكررة بأن الرد حتمي وقادم، وأن هناك بنك أهداف أمريكية جاهز على طاولة صاحب القرار الإيراني. أحد أخطر التداعيات المقلقة بالنسبة لتركيا هو تدحرج الأحداث إلى مواجهة مفتوحة بين الطرفين، وهو احتمال ضئيل وفق المعطيات الحالية، خصوصاً وأن الطرفين لا يريدانه؛ إيران بسبب موازين القوى، وترامب بسبب الانتخابات القادمة فضلاً عن احتمالات تطور الصدام بشكل يصعب ضبطه وبما يشمل أطرافاً أخرى.

السيناريو الثاني المقلق بالنسبة لأنقرة هو تحول العراق إلى ساحة مواجهة غير مباشرة بين الطرفين، وهو احتمال مرجح وفق كثيرين، ما يمكن أن يؤدي لانفلات الأوضاع وتعمق حالة الفوضى وعدم الاستقرار في البلد المجاور لتركيا مع ارتدادات شبه أكيدة عليها، سياسياً واقتصادياً وأمنياً.

ولعل السيناريو الأكثر خطورة بالنسبة لتركيا هو استهداف إيران للقواعد العسكرية الأمريكية الموجودة على أراضيها، وهو احتمال مستبعد بطبيعة الحال لافتقاد إيران للرغبة به والقدرة عليه والأدوات المطلوبة لتنفيذه، لكنه يبقى ممكناً بعدِّها أهدافاً محتملة وقريبة على طهران، خصوصاً إذا ما تطورت الأحداث إلى سيناريو المواجهة أو في حال نفذ دون تبنٍّ صريح.

وفق كل ما سبق، يتضح أن الحسابات التركية إزاء عملية الاغتيال وما بعدها دقيقة وحساسة بين الشريك الاستراتيجي والجار اللدود، وهو ما دفع أنقرة لانتهاج مقاربة مكوّنة من عدة مسارات:

المسار الأول كان إبعاد تركيا نفسها عن الحدث تماماً، وقد تبدى ذلك في حديث الرئيس أردوغان قبل أيام حين ذكر الاتصال الهاتفي مع ترامب قبل العملية بساعات وأن العملية "فاجأتنا"، ما يعني نفياً ضمنياً لعلم أنقرة المسبق بالعملية. وهو أمر متطابق مع تصريحات وزير الخارجية الأمريكي بومبيو الذي شكر عدة أطراف إقليمية؛ لم تكن أنقرة من بينها.

المسار الثاني كان التزام الحياد بشكل شبه كامل، بحيث غاب التأييد والشجب على حد سواء في تصريحات المسؤولين الأتراك، وبدا توصيفهم للعملية "فنياً" أو وصفياً بحتاً دون أي مواقف. كما أن الدعوات التركية لالتزام الحكمة وعدم التصعيد وجهت لكلا الطرفين، وإن كانت ركزت على إيران أكثر باعتبارها الطرف المتضرر الذي يهدد بالرد والانتقام.

وثالثاً، يبدو أن أنقرة حاولت أن تدخل على مساحة الوساطة بين الجانبين أو على الأقل جس النبض لذلك، لما تتمتع به من علاقات مقبولة مع كليهما تخولها لعب هذا الدور وفي ظل سوابق لها في عدة أزمات من بينها المتعلق بإيران، وقد نتج عن إحداها الاتفاق الثلاثي بخصوص تخصيب اليورانيوم عام 2010. لكن الجهود التركية المبدئية وغير المعلنة اصطدمت في ما يبدو بالإصرار الإيراني على الرد على "الجريمة الأمريكية". ولعله من الممكن تفسير تصريحات اردوغان بأن هذه العملية "لن تقف عند هذا الحد، وسيكون لها ما بعدها" كيأس تركي مرحلي من إمكانية الوساطة أو الحيلولة دون الرد الإيراني.

يبقى هناك سؤال أخير مهم، حول موقف تركيا في حال اندلعت مواجهة عسكرية بين إيران والولايات المتحدة، ذلك أن البند الخامس من ميثاق حلف الناتو يفرض على الدول الأعضاء مساندة أي عضو يتعرض لاعتداء، ما يطرح سؤال إمكانية انخراط تركيا (مع الحلف) في مواجهة إيران. هذا الخيار مستبعد إلى حد كبير لعدة اعتبارات، أولها صعوبة تطبيق هذا البند الذي لم يُلجأ له إلا مرة واحدة بعد أحداث 11/9 إلى جانب الولايات المتحدة، وثانيها أن الولايات المتحدة كانت البادئة في الاعتداء وليس إيران، إذا ما أُخذ اغتيال سليماني كنقطة بداية لأي تصعيد، والثالث (ولعله الأهم) هو حساسية موقف أنقرة في أي مواجهة محتملة، ما يمكن أن يمنحها استثناءً (ذاتياً أو من الحلف) في حال استدعي البند الخامس.

في المحصلة، تنظر تركيا بقلق شديد لحادثة الاغتيال ودلالاتها وارتداداتها المحتملة على المنطقة عموماً وعليها على وجه التحديد. لكنها ليست في وارد الاصطفاف مع أي طرف ضد الآخر، متمسكة بدعواتها للتهدئة وتحكيم العقل وتجنب التصعيد، وساعية للتواصل مع عدة أطراف من بينها طرفا الأزمة للعمل على تطويقها. ولعل الأهم بالنسبة لأنقرة هو رصد تأثيرات عملية الاغتيال على النفوذ الإقليمي لإيران وسلوكها في كل من سوريا والعراق تحديداً، حيث تربطها بها في البلدين الجارين علاقة تنافسية تطغى على مسارات التعاون القائمة أو المحتملة.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس