أسامة محمود آغي - TRT عربي

لا يشكل الصراع على الغاز في شرق المتوسط صراعاً على مخزونات الطاقة وحسب وإنما صراعاً حضارياً بين نموذجين وهما النموذج التركي الذي يتبنى التنمية طريقاً للحكم وبين النموذج المصري الذي يتبنى الاستحواذ القسري لخدمة فئة على حساب باقي الشعب.

لا ينبغي اغفال القمة الثلاثية بين مصر واليونان وقبرص الرومية في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2014م، والتي عقدت في القاهرة، وتم خلالها توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين هذه الدول. الدول الثلاث تجاهلت عن عمدٍ دعوة تركيا إلى هذه القمة، وتقف القاهرة خلف هذا التجاهل نتيجة التوتر الحاصل بين البلدين بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي في الثلاثين من يونيو عام 2013 على حكم الرئيس الراحل محمد مرسي.

القمة المعنية إضافة إلى الدور الاسرائيلي في خلفية الحدث، كانت الغاية منها تهميش حقوق تركيا في البحر الأبيض المتوسط إقليمياً. هذا الموقف يهدف إلى محاصرة تركيا، بما يخص حقوقها البحرية، والتي تنظمها الاتفاقات الدولية. ولهذا بدا التحالف والاتفاق بين الدول الثلاث (مصر واليونان وقبرص الرومية) وكأنه تحالف موجه ضد الدولة التركية، والسبب في ذلك هو سبب سياسي، نتيجة خلافات مزمنة بين الدولتين التركية واليونانية، والناشئة بعد تقسيم جزيرة قبرص إلى شطرين يوناني وتركي عام 1974م.

أما الخلاف المصري التركي، فيقف خلفه رفض تركيا لانقلاب عسكري قاده عبد الفتاح السيسي، وأطاح بموجبه بالحكومة المنتخبة، التي يقودها الرئيس الراحل محمد مرسي. الموقف التركي بُني على أساس رفض الحكومة التركية زعزعة الاستقرار في مصر بعد ثورة 25 يناير، التي أطاحت بحكم الرئيس حسني مبارك، وأتت بحكومة تمثل الشعب المصري عبر صندوق الانتخابات.

الخلاف المصري التركي ليست حدوده في هذا المستوى السياسي فحسب، بل هو أعمق من ذلك وأشمل، فهو في المحصلة مواجهة بين مشروعين سياسيين، الأول وهو المشروع المصري، ويقوم على استنزاف طاقات الدولة الاقتصادية وفق رؤية سياسية تخدم في المحصلة الطبقة الاجتماعية / السياسية، التي نشأت في مصر منذ عهد الرئيس الراحل أنور السادات. هذه الطبقة عمادها الرئيسي ضباط الجيش الكبار، وطبقة رجال الأعمال المرتبطة بهم، الذين يحصلون على امتيازات كبيرة.

والثاني هو المشروع التركي الحديث، الذي تبنيه الدولة التركية وفق برنامج استراتيجي وضعه حزب العدالة والتنمية التركي بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان. هذا البرنامج استطاع مضاعفة حجم الناتج المحلي من مستوى 286 مليار دولار سنوياً عام 2002م، إلى مستوى 850 مليار دولار سنوياً عام 2017م.

الفرق بين الرؤيتين والبرنامجين كبير وواسع، وهو في الحالة المصرية، يعطّل دوران عملية تنمية مستقلة وشاملة، نتيجة غياب الكفاءات والشرعية الوطنية الحقيقية، وبقاء الطبقة الاجتماعية/ السياسية التي تنهب فائض القيمة الوطني وتضعه في جيوبها عبر الامتيازات. أما في الحالة التركية ففائض القيمة الوطني، يتم مراكمته في استثمارات صناعية وزراعية وخدمية، ترفع مستوى الناتج المحلي، وتزيد مستوى دخل الفرد التركي، ومستوى رفاهيته في كل مناحي الحياة.

الفرق بين النموذجين المصري والتركي، هو من يقف خلف حالة العداء، التي تُظهرها حكومة مصر الحالية نحو تركيا، وذلك لخوف نظام دولة السيسي من النموذج التركي، الذي بدأ يشكل ظاهرة مرغوبة تشدّ الأنظار إليها شعبياً على المستوى العربي، كما شدّت من قبل التجربة الماليزية التي قادها مهاتير محمد الأنظار إلى نجاحاتها المحققة.

هذا الصراع بين النموذجين تدفع به حكومة السيسي إلى مستوى خلق تحالف أمني بحري واقتصادي موجه ضد الدولة التركية، وضد حكومتها، التي بدأت تقترب من انتهاء التزاماتها الدولية المقيدة لنشاطاتها، بسبب معاهدة عام 1923م، التي جاءت نتيجة لمآل الحرب العالمية الأولى، وخسارة تركيا في ذلك الوقت للحرب.

وهذا يعني أن من حق تركيا التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية للدولة، وهو أمر تخاف منه أوربا كما يخاف منه النظام المصري. فلقد أعرب الاتحاد الأوربي عن قلقه البالغ من أنشطة تركيا في البحر المتوسط، والتي أطلق عليها تسمية "أنشطة غير قانونية". باعتبار أن تركيا يحق لها التنقيب عن الطاقة في مربع الجهة التي تخص دولة شمال قبرص.

أما خوف حكومة السيسي من هذا الإجراء، فسببه خوفها من أنموذج ناجح يقابل أنموذجها غير الناجح بعين الشعب المصري، ولهذا تتجه إلى تصعيد الخلافات والتوترات مع تركيا لغاية صرف النظر عن أنموذجها الناجح، ومحاولة استنزاف القدرات التركية خارج ملعب التنمية الشاملة.

وهو أمر يفسّر السباق نحو ليبيا، والذي يحكمه التباين بين نموذجين، فالأتراك يريدون وحدة ليبيا ودعم حكومتها الشرعية التي حظيت باعتراف دولي، والتي يقودها فايز السراج. أما حفتر، فهو لم يأت لتزعم شرق ليبيا عبر صندوق الانتخابات، بل أتى بصفته بقايا من نظام الديكتاتور السابق معمر القذافي، ولهذا شكّل وجوده وميليشياته حصان طروادة بالنسبة لأنظمة تعادي الربيع العربي.

هذه الصورة توضح طبيعة الصراع حول الطاقة في شرق المتوسط، والتي تنام قيعان شواطئها على حجوم هائلة من الغاز. وهو الأمر الذي تريد الطبقات الاجتماعية الحاكمة في المنطقة العربية، أن تبعد الدور التركي عن استثماره، رغم حق الدولة التركية في هذا الباب.

الخوف من الاستثمار التركي للطاقة، يخفي خوفاً من تراكمات هائلة للثروة القومية التركية، التي تبحث عن موقع قدم متقدم في مجموعة الدول الأكثر تقدماً واقتصاداً في العالم. وهو أمر تخاف منه أوربا وتخاف منه الأنظمة الكولونيالية المتخلفة في الشرق العربي.

وفق هذه الرؤية صار بإمكاننا أن نفهم لماذا تنزعج حكومة السيسي من التقارب بين الدولة التركية وحكومة ليبيا الشرعية بقيادة السراج، فهذا الخوف المدعوم بخوف أنظمة عربية شرق أوسطية، هو خوف من أمرين متلازمين يشكلان تهديداً لوجود هذه الأنظمة، المفقرة لشعوبها، والمعطلة لتنمية بلدانها.

الأمر الأول، هو ازدياد قدرة تركيا ذات القوة البحرية الأولى في شرق المتوسط من تنفيذ برنامج استثمار الطاقة في هذه المياه لمصلحة شعبها وشعوب المنطقة، وهو ما تحاول أن تعطله الأنظمة الكولونيالية الحاكمة في المنطقة إضافة إلى إسرائيل.

الأمر الثاني وهو الهام، ويتعلق بعملية ملء الفراغ السياسي والاقتصادي كمشروع حيوي في المنطقة، وهو أمر تحاربه أنظمة الشرق الأوسط ذات الطبيعة القبلية وغير الديمقراطية.

ملء الفراغ السياسي والأمني والاقتصادي يمكن أن ينهض وفق قواعد جديدة، هذه القواعد يحددها التوافق بين القوى الفاعلة في العالم الاسلامي، التي إن استطاعت أن تفتتح سوقها الاقتصادية الفاعلة، فستكون هذه السوق قوة للمنطقة وشعوبها، وتراجع حقيقي للهيمنة الغربية فيها.

إذاً الصراع على الطاقة في شرق المتوسط هو صراع على نموذج تنموي حضاري. فهل تحاول شعوب المنطقة أن تلتقي على هذه الأرضية، وتعمل على استثمار طاقتها وقدراتها بصورة مثلى؟ ننتظر الإجابة على هذا السؤال من سير تطور الصراع الذي يجب أن يوحد شعوب المنطقة ضد قوى النهب العالمية.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس