توران قلاشلاقجي - القدس العربي

لا يمر يوم إلا وتُنشر فيه أخبار سلبية وعنصرية عن الدولة العثمانية في وسائل الإعلام الإماراتية والسعودية. هذه الأخبار لا تستند لأي مصدر، وتهدف إجمالًا إلى التزوير والتشويش. هناك أخبار لا يمكنكم أن تجدوها حتى في وسائل الإعلام الغربية. لنفرض أنهم لا يثقون في كتبهم القديمة، فليقرؤوا على الأقل الكتب التي ألّفها الكتاب الغربيون عن الدولة العثمانية. (بالطبع، أظهرت لنا هذه الأخبار أن العديد من المثقفين في منطقتنا لا يعرفون حقًا الدولة العثمانية). يقومون بإجراء التقييمات بناء على بيانات كتبها المستعمرون، قبل قرن من الزمن، وليس لها أي علاقة بالحقيقة مع الأسف.

دعونا في مقالنا هذا نبحث عن الجواب على السؤال «مَن هم العثمانيون؟». جاء الأتراك إلى الأناضول، بعد أن تعرفوا على الإسلام. وفي الأناضول، تعرفوا على ثقافات الفرس والعرب. ومع كل تقدم في الأراضي البيزنطية، ظهر صنفان من الأتراك: عثمانيو القصر والأتراك. كانت الفكرة الأساسية للعثمانيين هي عدم بناء الدولة على أساس عنصري، كانوا يعتقدون أن العرق ليس له أي علاقة بالدولة أبدًا. كانت الدولة بنية جغرافية تتكون من أشخاص من أصول وثقافات مختلفة: الرابط المشترك يمكن أن يكون سياسيًا فقط، لقد تبنوا الهوية الدينية كوسيلة مساعدة في تصنيف المجموعات. تم إقصاء حتى اسم العرق. بذلك تركوا اسم التركي الذي هو اسم عرقهم واستبدلوه باسم العثماني، كان هذا اسمًا سياسيًا. كما حاولوا الابتعاد عن تقليد وثقافة العرق، كان العنصر التركي جزءًا بسيطًا من الأدوات الإنسانية لدى الدولة، التركي العادي لا يختلف عن اليوناني العادي.

عثمانيو القصر تبنوا موقفًا مهينًا إلى حد ما تجاه «الأتراك»، خاصة أتراك الأناضول، ومن بين الأوصاف الكثيرة التي كانت تُطلق على قرويي الأناضول: «التركي القروي»، و»التركي الفظ»، و»أتراك بدون إدراك». العثمانيون كانوا يقولون إن الأتراك هم أقرباء لنا من بعيد. كان الشخص من عثمانيي القصر يرى نفسه حضريًا، في حين يرى أتراك الأناضول بدوا. إنها حقيقة تاريخية، فكل مجتمع متحضر، يكون القروي مكروها. كانت حضارة العثمانيين مثل حضارة الإمبراطورية الرومانية الشرقية، رغم أن الإسلام عنصر مهيمن، كان بإمكانكم بسهولة العثور على آثار الأنظمة الثقافية والسياسية العربية والفارسية والبلقانية والبيزنطية داخل القصر. استفاد العثمانيون من ثقافات العديد من الحضارات، بدءا من الهندسة وحتى الموسيقى والفكر والفنون اليدوية، ولذلك تقول الكاتبة التركية خالدة أديب أديوار: «العقل التركي عملي في الأساس، ويستخدم المنطق في الأمور التي يعرفها».

فضّل عثمانيو القصر غالبًا الزواج من الأعراق الأخرى. كانت «أمهات السلاطين» ينحدرن من العناصر غير التركية، ومن بينهن السلطانة حُرّم، ونوربانو خاتون، وصفية خاتون، وكوسيم خاتون، والسلطانة خديجة. كما أنهم اختاروا لغة تتركز على العربية والفارسية، وسموها اللغة العثمانية، حتى أن السلطان ياووز سليم أراد ذات مرة أن يجعل العربية لغة رسمية للدولة العثمانية. كتب العديد من السلاطين العثمانيين ديوانهم باللغة الفارسية. كان الإسلام جزءا من عجلة الدولة والقانون. كان الكثير من شيوخ الإسلام العثمانيين من أصول كردية، مثل مولا جراني وأبو السعود أفندي. وكان البعض من أصول ألبانية وقوقازية. كما أن 90% من الشخصيات التي تولت منصب الصدر الأعظم، وبتعبير اليوم رئاسة الوزراء، كانوا من ملل مختلفة، مثل البوسنية والكرواتية والرومية والمجرية والإيطالية والشركسية والجورجية والأبخازية والعربية. كان نظام الدولة أيضًا يحتضن عددًا كبير من الشخصيات غير المسلمة، خاصة الباشوات الأرمن والروم كانوا يتولون مهام في العديد من مناصب الدولة. عدد كبير من الوزراء والباشوات والقادة العسكريين، وحتى الشخصيات المعمارية والفنية، ممن كانوا مسيحيين واعتنقوا الإسلام لاحقًا، انخرطوا كذلك في النظام.

خالدة أديب أديوار، التي تعد من أشهر الكتّاب في أواخر العهد العثماني، تؤكد على ضرورة أخذ الأمور التالية بعين الاعتبار كونها أدوات فكرية لدى مؤسسي الدولة في العهد العثماني:

1- جانب الإسلام الذي لا يعترف بالعرق والجنس، وشجاعتهم وفضائلهم.

2- أسس العدالة لدى الإسلام التي لا تعترف بالعرق والجنس.

3- نظام تربية اليونانيين، ولكن بشرط أن يكون ميالًا أكثر نحو الأصول القاسية للإسبارطيين.

4- الأجهزة البيزنطية.

5- وجهات نظر الرومان الواقعية.

6- مؤلفات «الدولة» لأفلاطون، و»الدولة المثالية» للفارابي.

المؤرخ الأمريكي ألبرت هاو ليبير (1876- 1949)، قال إن نظام الدولة لدى العثمانيين كان الوحيد في العالم القريب من كتاب الجمهورية لأفلاطون. كانت حقيقة لا جدال فيها أن عثمانيي القصر الذين يتمتعون بالإرادة والعقيدة لإنشاء إمبراطورية دائمة، أي الطبقة الحاكمة، كانوا قوة دافعة حتى نهاية القرن التاسع عشر. لقد كانت فئة مختلطة من البداية، لكنها تعرف ماذا تفعل وصاحبة عزيمة. بدأ العرق التركي، مثله مثل الأعراق الأخرى، في التحرك بدعوة من مثقفيه، بالتزامن مع عصر القوميات الذي أشعل فتيله عصر الانحطاط والقرن التاسع عشر. ومع قدوم العهد الجمهوري، زال عثمانيو القصر ولم يعودوا كأفراد قوة بعد ذلك، يواصلون عيشهم ضمن الصنف الثاني، أي التركي.

خلاصة القول، ينبغي على أولئك الذين يريدون فهم العثمانيين والتاريخ العثماني، أن يتقنوا هيكل وأدب الدولتين الإيرانية والبيزنطية، والقانون الإسلامي، وتقنيات الحرب التركية. العثمانيون لم يطلقوا على أنفسهم أبدًا اسم الإمبراطورية. اسم الدولة العثمانية الرسمي هو «الدولة العلية». ولم يستخدموا أبدًا وصف الدولة العثمانية. كانت إسطنبول عاصمة «الدولة العلية» تسمى «دار السعادة» و»أستانة». أمّا مركز الدولة الكائن في أستانة كانوا يسمونه «الباب العالي». أثبت ابن خلدون، أستاذ فلسفة التاريخ، أن الدول القبلية لا يمكنها أن تعيش أكثر من 120 أو 150 عامًا. وانطلاقًا من ذلك، أنقذ العثمانيون أيضًا نظام الدولة من الروح القبلية. وهذا هو السر الذي يقف وراء استمرارها 600 سنة. ينبغي أن لا ننسى أن الدول والإمبراطوريات التي عاشت لفترة طويلة كانت مبنية على الثقافة بدلاً من القومية والقبيلة.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس