محمود عثمان - خاص ترك برس

على مدى 73 عاماً من تأسيسه، تبدو حالة "حزب البعث العربي الاشتراكي" قاتمة إذا ما قورن ما حققه الحزب بأهدافه ومبادئه الأساسية، وتزداد الصورة قتامة عندما يعكف الباحث على دراسة صراعات الحزب الداخلية وأزماته مع القوى السياسية الأخرى، وتناقضاته عندما أحكم قبضته على السلطة منذ عام 1963.

تأسس الحزب عام 1947، ولكنه اكتسب اسمه الراهن باندماج حزبي البعث العربي (ميشيل عفلق، صلاح البيطار، وزكي الأرسوزي) والعربي الاشتراكي (أكرم الحوراني) عام 1952، ولم يَدُم هذا الاندماج سوى عشر سنوات، حيث عادا للانشطار، وتحول الحوراني معارضاً للنظام بعد خلافه مع الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، وتأييده انفصال سورية عن مصر عام 1961، وقد سجن وأُبعد إلى أن توفي في المنفى في عمَّان عام 1996.

أما مؤسسا البعث الآخران، فقد اغتيل صلاح البيطار (ولد عام 1912) على يد نظام حافظ الأسد في باريس عام 1980 بعد أن أعلن مجاهرته للعداء لنظامه وإصداره مجلة "الإحياء العربي" عام 1978، التي كانت تنتقد حكم الأسد بقوة، فيما توفي مؤسس الحزب الأبرز ميشيل عفلق (ولد عام 1910) في بغداد عام 1989 بعد أن انحاز لحكم البعث في العراق.

وتعكس أزمات الاعتقال والنفي والاغتيال وجهاً آخر من صراعات حزب البعث الداخلية، ومنها ما عُرف بالصراع بين اللجنة المدنية التي كانت تمثل الإطار التنظيمي المدني للحزب وتضم النخبة السياسية، واللجنة العسكرية التي أسسها حافظ الأسد (1930 - 2000) إبان ابتعاثه للتدريب في القاهرة زمن الوحدة مع مصر (1958 - 1961)، وتضم مجموعة الضباط العسكريين، وقد حُسم هذا الصراع لصالح العسكر بقيادة حافظ الأسد وصلاح جديد (1926 - 1993) بانقلاب الثامن من آذار 1963، والذي تبعته سلسلة نزاعات دموية انتهت بحركة 16 تشرين ثاني 1970 بقيادة حافظ الأسد، حيث اعتقل جديد وبقي في السجن إلى حين وفاته في 19 آب 1993، كما اعتقل قادة البعث من خصوم الأسد.

** حزب البعث بعد عام 1970 .. إحكام القبضة على مفاصل الحكم في سورية

يمثل عام 1970 منعطفاً مهماً في مسار حزب البعث في سورية، حيث شهد سيطرة المجموعة العسكرية على قرار الحزب وتصفية القادة السياسيين أو نفيهم إلى الخارج، وتلاه في شهر تشرين ثاني من ذلك العام، الانقلاب داخل المجموعة العسكرية نفسها، وهيمنة حافظ الأسد على الدولة والحزب وسجن خصومه وفي مقدمتهم صلاح جديد، وتصفية آخرين، وإصداره عام 1973 دستوراً قوبل برفض شعبي، حيث شهدت المدن السورية موجة احتجاج كبيرة بسبب ما تضمنه الدستور من انقلاب على قيم الحرية والعدالة والتعددية، وترسيخ هيمنة الحزب على مفاصل الدولة والمجتمع، وإغلاق منافذ الحيــاة السياسية باستثناء بعض الأحزاب اليسارية والماركسية التي احتفظ بها النظام بسبب علاقته مع الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت.

يمكن تلخيص مسار حزب البعث منذ عام 1970 وحتى رحيل الأسد الأب عام 2000 بالنقاط التالية:

1. خضوع مؤسسات الحزب القيادية لهيمنة الأجهزة الأمنية، وتحول عناصر الحزب إلى أدوات لرصد الخصوم والإبلاغ عنهم، مقابل حصولهم على امتيازات ومكاسب مالية أو مناصب.

2. شلل المؤسسات القيادية، مثل القيادة القومية (تضم ممثلي فروع الحزب خارج سورية)، والقيادة القطرية (تضم ممثلي الحزب في سورية) لحساب رئيس الحزب، وهو رئيس الدولة وقائد الجيش، وقد حول الأسد الأب الحزب إلى أداة ضاربة له في وجه خصومه، كما استخدم واجهة مدنية للهيمنة العسكرية والأمنية التي كان يتولاها ضباط علويون يدينون بالولاء للأسد.

وقد لعب عناصر الحزب، الذين جرى تسليحهم وتنظيمهم في مجموعات خاصة، دوراً مهماً في التصدي للمعارضة الإسلامية في الاحتجاجات التي وقعت بين عامي 1980 - 1982، والتي انتهت بوقوع مجزرة مروِّعة في مدينة حماة قتل فيها نحو 40 ألف مدني وتدمير معظم أحياء المدنية.

3. شكل حزب البعث مع أحزاب اليسار والحزب الشيوعي عام 1972 الجبهة الوطنية التقدمية، والتي لم يكن لها أي دور في صناعة قرار الدولة، ولكنها غدت واجهة سياسية يتذرع من خلالها النظام بوجود تعددية سياسية في سورية، وقد مُنح هؤلاء مقاعد محددة مسبقاً في مجلس الشعب (البرلمان) والحكومة، دون أن تكون لهم أي صلة بسياسات الدفاع والداخلية والخارجية والاقتصاد والمالية، والتي كانت حكراً على القصر الجمهوري ورئيس الدولة.

4. استخدم الحزب "القيادة القومية" كوسيلة لكسب مؤيدين للنظام في الدول العربية التي ينشط فيها، مثل لبنان، الأردن، اليمن، تونس، والسودان، إضافة إلى إقامة روابط مع الأحزاب الاشتراكية الأممية، وقد ساعده ذلك في تبرير صراعاته وتناقضاته، ومنها حربه ضد الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير بين عامي 1976 و1983 واعتقاله المئات من مؤيدي الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (1929 - 2004).

5. تعتبر الفترة بين عامي 1970 - 2000 مرحلة الانحسار الفكري للحزب، حيث خَلَت صفوفه من أي منظرين لامعين أمكنهم تجديد رؤى الحزب الفكرية، وانصهر ضمن أجهزة الدولة وباتَ أداة بيدها، وهو الأمر الذي جعل الحزب بلا مُنتج فكري، واتسمت سُمعته بالسلبية، كما كان حال الأحزاب الاشتراكية التي انهارت بناها مع انهيار منظومة الاتحاد السوفياتي عام 1991، وقد جعل ذلك الحزب قلقاً إلى درجة كبيرة من أي منافسة حزبية جدية في ظل نظام تعددي كانت ترتفع المطالَب الشعبية به بعد وفاة الأسد الأب.

** حزب البعث .. مستقبل غامض

شكلت وفاة حافظ الأسد صدمة قوية لحزب البعث، نظراً لأن جميع الخيوط كانت بيده وتُدار بشكل غامض، وجاء استلام نجله بشار دُفة القيادة في الحزب والدولة، عنصراً آخر لأزمة القيادة، حيث يُنظر إلى بشار الذي كان حديث السنِّ في حينه (34 عاماً)، على أنه قادم من خارج التسلسل القيادي، ولذا كان من الطبيعي أن يعمد إلى تهميش قيادات الحزب التي رافقت والده وساعدته على الإمساك بالسلطة، مثل عبد الحليم خدام ومصطفى طلاس. 

عكف بشار منذ استلامه السلطة بدعم أمريكي، عقب لقائه الخاص مع وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت في 13 حزيران 2000 حيث قالت الأخيرة «لمستُ بوادر مشجعة جداً إزاء رغبته في اتباع نهج والده، الذي اتخذ قراراً استراتيجياً لصالح السلام» في الشرق الأوسط، وأضافت «يبدو أن بشار يتمتع بتصميم كبير على ما يبدو ومستعد لإتمام واجبه».

شهدت تلك الفترة استمراراً في انحسار منظومة الحزب لحساب تغوُّل الأجهزة الأمنية التي شرعت في التصدي للحراك الذي تمثل في لجان إحياء المجتمع المدني مع بداية عهد بشار الأسد، ثم إعلان دمشق في 2005 الذي ضمَّ أهم قوى المعارضة السياسية بمختلف اتجاهاتها، ومثَّل ذلك تحدياً مباشراً للنظام ولحزب البعث، وأدى ذلك إلى تهيئة البيئة لانخراط سورية في موجة الربيع العربي في آذار 2011 بمشاركة شعبية وسياسية غير مسبوقة في ظل القمع المعروف للنظام.

وخلال سنوات "الربيع السوري" منذ 2011 وحتى الآن شهد حزب البعث انشقاقات كبيرة في صفوفه، وخاصة ضمن قاعدته السُّنية، وانحاز عشرات الآلاف من عناصر الحزب لصفوف الجماهير معلنين انضمامهم لنا عُرف بـ"ثورة الحرية والكرامة".

** حزب البعث في مواجهة المعارضة السياسية

يحاول داعمو نظام الأسد، روسيا وإيران، إعادة هيكلة الحزب وتنظيمه وضبط صفوفه، من أجل تفعيل دوره في الشارع السوري الموالي، تحسباً لمختلف مآلات الحل السياسي في سورية، حتى في ظل سيناريو رحيل الأسد.

ويسعى نظام الأسد إلى دفع حزب البعث للعب دور أكثر فاعلية، كواجهة مدنية، تقدم المساعدات والخدمات للمواطنين، من أجل الاستفادة مما تبقى منه، كقوة مدنية منظمة، في ظل غياب تام لأي كتلة مدنية منظمة أخرى، بسبب القمع الذي مارسه نظام الأسد ضد أي تجمع مدني أو حزبي او سياسي، تلك الواجهات التي تدار بواسطة أجهزة المخابرات.

يحاول نظام الأسد التماهي مع مرحلة الانتقال السياسي وفق السيناريوهات المطروحة للتغيير في سورية، من خلال تفعيل دور الحزب، واللعب بورقته كخطة بديلة للعودة بواسطته وعن طريقه للحكم من النافذة، بعد أن يكون قد طرد منها من الباب.

لذلك يتوجب على المعارضة السياسية السورية أن تدرك مآلات الحل السياسي في سورية، فقد يبرز حزب البعث أمامها منافساً سياسياً لا يُستهان به. إذ بالرغم من أعوام الحرب وما ألحقته به من ضرر، فإن حزب البعث لايزال يمتلك خبرة حزبية تنظيمية، وقواعد حزبية ناجزة على مستوى الجغرافية السورية، ولايزال بعضها يمارس نشاطه حتى في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام،  إضافة إلى خبرة كوادره في العمل المؤسساتي الحكومي، الأمر الذي يجعل منه مؤهلاً لاستقطاب بعض الشرائح الاجتماعية التي أفرزتها الأزمة السورية، خصوصا شريحة الموالاة والرماديين، أكثر من فصائل المعارضة السورية، التي لاتزال تفتقر للرؤية الموحدة، والخبرة السياسية الحزبية الكافية، والمشروع الوطني الجامع، ما يضع المعارضة السياسية أمام تحديات جمة في إعادة صياغة مشروعها السياسي وترجمته إلى تشكيلات سياسية حزبية متماسكة برؤية موحدة، إضافة إلى ضرورة السعي لصياغة ملامح واضحة للهوية الوطنية السورية.

ثمة تحديات كبيرة يواجهها حزب البعث بسبب ارتباطه الجذري بنظام الأسد، ففي حال زوال الأخير أو انتهاء قبضته الأمنية، فإن الحزب سيكون عرضة للانحسار أو الانتهاء، كما حصل في العراق، ومن هنا يعتبر الحزب في نسخته الراهنة حزب مصالح لا حزب أيدلوجيا وأفكار، وأداة للإمساك بالسلطة وليس جسراً للعبور نحوها، كما هو الحال في النظم الديمقراطية.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس