سمير صالحة - العربي الجديد

أعلنت السفارة التركية في طهران أنه "تم إزالة سوء التفاهم" بشأن أبيات الشعر التي قرأها الرئيس رجب طيب أردوغان في أثناء مشاركته في احتفالات النصر في العاصمة الأذربيجانية، باكو، قبل أيام. وقال وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، إن نظيره التركي أبلغه، في اتصال هاتفي لتبريد الأجواء، إن أردوغان لم يكن يقصد أذربيجان الجنوبية، بل الغربية في لاتشين وإقليم ناغورنو كاراباخ.

هدوء ملحوظ بعد عاصفة سياسية دبلوماسية رافقها استدعاء الخارجية الإيرانية السفير التركي للاحتجاج ورد أنقرة بالمثل، ثم إعلان طهران إبلاغها الجانب التركي أن "حقبة ادّعاء السيادة على الأراضي وترويج الحرب والإمبراطوريات التوسعية قد ولّت". ونشر جواد ظريف، في تغريدة له: "ألم يخبر أحد أردوغان أن القصيدة التي تلاها بشكل غير صحيح في باكو تتعلق بالفصل القسري لمناطق أراس الشمالية عن موطنها الأصلي إيران؟". وطهران تعتبر ما جرى يمسّ وحدة أراضيها وسيادتها، وتلويحا بلعب الورقة الأذربيجانية داخل أراضيها، حيث يعيش حوالي عشرين مليون أذري اصطفوا إلى جانب باكو في مواجهتها مع يريفان واسترداد أراضيها، على الرغم من سياسة الحكومة الإيرانية الانفتاحية على أرمينيا.

أبيات من الشعر ردّدها الرئيس أردوغان، وهو يشارك في احتفالات النصر بالعاصمة الأذربيجانية، يتذكّر فيها القابعين في الضفة الأخرى لنهر أراس الحدودي، كانت كافية لإشهار السيوف، والتصعيد بين أنقرة وطهران، في بقعة جغرافية تداخلت فيها الدماء بالدموع والحزن بالغضب والمصالح والقطع بين القوميات والأعراق.

كان أراس دائما في قلب المواجهات الإيرانية الروسية في المنطقة، بعد تراجع النفوذ العثماني، وحيث وقعت روسيا القيصرية وإيران عام 1813 على معاهدة غولستان التي نصّت على خروج مناطق كثيرة في منطقة القوقاز وأجزاء من سواحل بحر قزوين الغربية من سلطة إيران. ولكن بنود المعاهدة لم تصمد طويلا مع اندلاع حرب عام 1826 بين الطرفين، لتنتهي عند التوقيع على معاهدة "تركمان شاي"، والتي سلخت آخر أراضي القوقاز عن إيران لصالح روسيا.

ترمز مقاطع الشعر التي قرأها أردوغان عن نهر أراس التاريخي إلى وحدة النهر والتحسر على العقود الماضية التي تتحدّث عن تمدّده في أذربيجان الكبرى، فالنهر الذي ينبع من شرق الأناضول يشكل اليوم الحدود الفاصلة بين دول عديدة يعبُرها، وهي تركيا وأرمينيا وأذربيجان وإيران، وقيمته المائية ليست أكثر من أهميته التاريخية والدينية والحضارية، فهو الرمز الأول لجنوب القوقاز وأذربيجان قبل تفتيتها إلى ثلاثة أجزاء.

التهدئة مهمة على خط أنقرة - طهران في هذه المرحلة الصعبة التي تعيشها المنطقة، بانتظار الرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، وكيف سيتعامل مع البلدين، فلماذا يذهبان باتجاه توتير علاقات حسن الجوار بسبب مقطع من الشعر؟ حتى ولو أخمدت النار، فان الجمر ما زال حاميا على ضفاف أراس، وهو جاهز للتسبب في فيضانات جارفة مشحونة بأعباء ورواسب التاريخ والجغرافيا المؤلمة، حيث شرارة واحدة كافية لتحريك المشاعر العرقية والقومية في العلاقات التركية الإيرانية، وحيث ثبت أخيرا أن آثار الجروح لم تلتئم في جنوب القوقاز، بعدما فرض على النهر رسم حدود مرفوضة من سكان ضفتي النهر الفاصل بين شمال أذربيجان وجنوبها، كما يقول القوميون الأتراك.

المشكلة ليست في أن أردوغان يصرّ على قراءة الشعر، حتى ولو كان مكلفا كما حدث عندما دخل السجن لأشهر بسبب ذلك في أواخر التسعينيات، أو أنه يقدّم أحيانا عواطفه ومزاجه الشخصي الذي يطغى على السياسة والدبلوماسية في مواقفه وقراراته، بل هي أيضا في توقيت ما جرى، والمكان والأجواء المحيطة به تركياً وإيرانياً. ردّة الفعل الإيرانية السريعة والغاضبة تقول إن أردوغان استفز طهران، لأن الأبيات التي ردّدها تتحدث عن ملكية النهر والأرض وإبراز القومية على حساب التركيبة الحالية للدولة الإيرانية وحدودها ومعالمها.

إيران منزعجة من المكاسب التركية على حدودها، وهي مكاسب قومية وأمنية واقتصادية، لإظهار أن جنوب القوقاز بات ساحةً استراتيجيةً مهمة بالنسبة لتركيا، وحيث تعيش إيران على أعصابها في هذه الآونة مع أنباء استعدادات أميركية لتنفيذ عملية عسكرية واسعة ضدها وضد مصالحها في المنطقة، مصحوبة بتصعيد إسرائيلي شبه يومي، من خلال استهداف مواقعها وقياداتها داخل إيران وخارجها. ويقلق إيران أيضا لعب ورقة الأقليات ضدها، خصوصا بعد اندلاع أحداث عام 2006 في شمال البلاد بطابع استفزازي للقومية التركية الأذرية، وحيث جهدت السلطات لمنع تحولها إلى انفجار أكبر. كما أن إيران قلقة حيال انسداد المعابر التجارية مع أرمينيا التي فرضها احتلال المناطق الحدودية بين إيران وأذربيجان سنوات طويلة، ونجاح باكو في تحريرها والسيطرة عليها. وتعدّ وقفة الرئيس الأذري، إلهام علييف، على جسر هودافرين الحدودي التاريخي، لتأمّل المكان بعد تحريره، رسالة إلى إيران بهذا الاتجاه قبل أن تكون للجانب الأرميني. وما يقلق طهران حتما هو ليس أبيات الشعر التي ردّدها أردوغان للشاعر الأذري بهتيار وهاب زاده، بل التوازنات العرقية الحساسة في بنية إيران الداخلية، خصوصا أن وزير الخارجية الإيراني الأسبق، علي أكبر صالحي، يقول إن 40% من الشعب الإيراني هو من أصل أذري.

والقناعة التركية، في الأثناء، أن التصعيد في مثل هذه الظروف الإقليمية الصعبة بالنسبة لأنقرة وطهران ليس في مصلحتهما. ولكن هناك من يقول إن غضب الإيرانيين سببه القلق من احتمالات تحوّل في المواقف التركية، إذا ما قرّرت واشنطن توجيه ضربة عسكرية لإيران، وأن التوتر الأخير مؤشّر على ذلك. وأردوغان يمد يده من باكو نحو المصالحة في جنوب القوقاز، وبناء تكتل إقليمي سداسي جديد، يجمع تركيا وإيران وروسيا وأذربيجان وأرمينيا وجورجيا، لكنه لا يتردد في قراءة أبيات من الشعر الأذري التاريخي الذي يمس عصب النقاط الأكثر حساسية بالنسبة للإيرانيين والأتراك الأذريين. يعلن استعداد بلاده لفتح الحدود مع أرمينيا في إطار تفاهمات جديدة، لكنه يُغضب طهران، عندما يذكّرها بالوضعية القديمة لنهر أراس الشاهد على العصور. ناهيك عن أن الخلاف التركي الإيراني ينتظره ويريده حتما لاعبون إقليميون كثيرون، خصوصا من يدعم مواجهتهما في المنطقة، تحت عنوان دعم الاعتدال في مواجهة "المشروع المذهبي الإيراني والأصولي التركي".

.. قراءة أردوغان أبيات الشعر عادة قديمة فيه، لا يتخلى عنها، حتى ولو كلفته السجن كما حدث قبل 22 عاما. ذهب للمشاركة في احتفالات النصر الأذربيجانية، واسترداد أراض كانت القوات الأرمينية تحتلها، فأشعل النار برزمة تاريخية قديمة، ومن أكثر المسائل حساسية في العلاقات بين العالمين، التركي والإيراني. أراد أن يكسب أكثر محبة الشعب الأذربيجاني، فأغضب الإيرانيين أكثر، بعد بروز سيناريو الاختراق التركي للمنطقة، وتراجع نفوذهم في القوقاز، والسير في المجهول، عبر تقاسم الكعكة تركيا وروسيا على حسابهم هناك. وتاليا، لم تستمر تظاهرات الاحتجاج الإيرانية أمام القنصلية التركية في تبريز طويلا، بعد قرار الهدنة والتهدئة على خط أنقرة - طهران، لكن الرسالة التركية إلى إيران لن تتغير، أن أراس النهر قد يفصل بين الدول، لكنه لن يفصل بين الشعوب والقوميات والأعراق مهما طال الزمن. .. كلام لم يقله أردوغان، لكنه أوضح للإيرانيين أنه يعرف جيدا كيف يتعامل مع الإصبع المجروح، وهي رسالة تصفية حسابات في جنوب القوقاز، وبعد فشل رهان طهران على جبهة الصمود والتصدّي الأرمينية في كاراباخ.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس