محمود عثمان - الأناضول

مساء الجمعة الماضي، انطفأت إحدى منارات العلم في إسطنبول والعالم الإسلامي، عندما توفي العالم الكبير، والداعية الجليل المجاهد، المعلم مربي الأجيال، الشيخ محمد أمين سراج عن عمر مبارك ناهز الثالثة والتسعين عاما.

الشيخ محمد أمين سراج هو آخر تلاميذ الإمام زاهد الكوثري، وكان تلميذا للعلامة المحدث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وقد تشرفت بلقائه في مطلع الثمانينيات، في سكن طلاب جمعية نشر العلم، حيث كنت مقيما فيه، وكان للشيخ درس أسبوعي هناك.

ثم جرت العادة على زيارة الشيخ أمين كل عيد، مع الأخ غزوان مصري وثلة من الشباب، بعد الانتهاء من حفل المعايدة واستقبال الضيوف في وقف دار السلام.

وكان الشيخ أمين يفرح بزيارتنا فرحا كبيرا، ويظهر بهجة خاصة بلقائنا، ويعرفنا لضيوفه وزواره بقوله: "هذا حلبي حنفي".

ترجمة مختصرة :

هو العلامة الشيخ المحدث الفقيه محمد أمين سراج بن الشيخ مصطفى بن أسعد بن يوسف بن علي السراج.

ولد في شرقي تركيا في أول يوم من شهر رمضان المبارك سنة 1348 هـ، عام 1929م، وتعلم القرآن الكريم على يد والده رحمه الله، وأكمل حفظه للقرآن الكريم وهو ابن عشر سنوات .

ثم تلقى العلم على يد بعض مشايخ مسجد الفاتح في إسطنبول: الشيخ محمد خسرو أفندي، وهو من كبار مشايخ مسجد الفاتح، والشيخ سليمان أفندي، وكان رئيس قيمي المسجد، وقد حضر عليه قراءة مجلدين من صحيح البخاري ، وأجازه إجازة خطية.

ومن شيوخه أيضا: العلامة الكبير الشيخ محمد زاهد الكوثري رحمه الله، وقد أجازه بمروياته ومسموعاته، والشيخ علي حيدر أفندي من كبار المشايخ في المشيخة الإسلامية في هيئة التدريس والإفتاء.

والعلامة الشيخ مصطفى لطفي أفندي، وكان يلقب بالمكتبة السيارة لكثرة قراءته ومطالعته، فقد كان يعتكف في مكتبة مسجد السلطان محمد الفاتح من الصباح إلى المساء، وكان يوجد فيها اثنا عشر ألف كتاب .

وقد استعرض مكتبة مسجد السلطان محمد الفاتح مرتين، وكان يمشي على قدميه ولم يركب سيارة ولا حافلة.

أما العلامة الشيخ مصطفى صبري (شيخ الإسلام في الدولة العثمانية) فالتقى به في مصر عندما كان يزور الشيخ الكوثري .

وللعلامة الكبير محمد زاهد الكوثري أكبر الآثار عليه حيث درس عليه في بيته لمدة أربع سنوات، فناوله ثبته (التحرير الوجيز فيما يبتغيه المستجيز) مناولة مقرونة بالإجازة قبل وفاته بعشرين يوما.

وأجازه أيضًا الشيخ الفقيه محمد حسن محمد المشاط، وشيوخنا الشيخ المسند محمد ياسين الفاداني، والإمام أبو الحسن الندوي، والعلامة عبد الفتاح أبو غدة، والعلامة محمد عبد الرشيد النعماني، والفقيه العالم عبد الرزاق الحلبي، والفقيه محمد ديب الكلاس، رحمهم الله تعالى.

رحلته في طلب العلم:

عندما بلغ الخامسة عشر من عمره، وكان قد حفظ القرآن، وتلقى العلم على يد والده الشيخ مصطفى سراج، قال له والده: "هيا يا ولدي .. لقد حان وقت سفرك لطلب العلم". يومها كان هناك حافلة واحدة في الأسبوع من توكات إلى أنقرة، ومنها إلى إسطنبول.

ولما حان وقت السفر، حملته والدته حقيبة السفر، وودعته عند باب الدار، ثم شيعه أبوه إلى رأس الحارة، وقال له أكمل طريقك إلى مكان انطلاق الحافلة.

وصل الشاب أمين إلى إسطنبول، وذهب إلى حيث أمره أبوه، عند الشيخ خسرو أفندي، الذي استقبله وأمن له سكنا مع طلاب العلم.

مضت ثلاثة أشهر دون أن يكتب أمين لأهله رسالة كما جرت العادة في تلك الأيام، ناداه شيخه وسأله قائلا: "أرى أنك لم تكتب رسالة لأهلك لماذا؟ .. فأخبره بأن والده ووالدته ودعوه من باب الدار ولم يرافقوه إلى مكان انطلاق الحافلة كما يفعل بقية الأهالي، فابتسم الشيخ وقال له : "أخبرني والدك بأنه اتفق مع والدتك على ذلك، لكي لا تشتاق إليهم سريعا، فتعود وتترك طلب العلم".

سافر إلى مصر عام 1950، ومكث فيها تسع سنوات، وتخرج من كلية الشريعة بجامعة الأزهر عام 1958م.

في مصر، التقى العلامة الشيخ مصطفى صبري (شيخ الإسلام في الدولة العثمانية) وكان يزور الشيخ الكوثري، وتلميذه العلامة الحلبي الشيخ عبد الفتاح أبو غدة .

عمله ودروسه:

بدأ بتدريس العلوم الشرعية للطلاب متطوعا في جامع السلطان محمد الفاتح من عام 1958، منذ قرابة اثنين وستين عاما، ودرس عددًا كبيرًا من الطلاب في مسجد الفاتح ، وبعد صلاة الصبح في شهر رمضان، واستمر إلى آخر أيام حياته، وقد درس عليه عدد كبير من الطلاب، صاروا أساتذة في الجامعات، مفتين، واعظين، معلمين، مديرين، أئمة ودعاة، رؤساء بلديات، نوّابا في البرلمان، وتجارا.

وكان يوصي طلابه بتعلم اللغة العربية، ويمنحهم الأمل بالتغيير قائلاً: "ها قد أصبح لديكم رئيس جمهورية يقرأ القرآن.

في وداعه وكرامة دفنه:

يوم الأحد اكتظت شوارع منطقة الفاتح بإسطنبول، رغم الحظر الصحي المفروض بتركيا، وامتلأت ساحات جامع الفاتح، بآلاف المصلين المشيعين لجنازة الشيخ أمين سراج، يتقدمهم رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان، الذي ألقى كلمة وشارك في حمل النعش، وشارك نائب الرئيس، ورئيس البرلمان، وعدد كبير من رجال الدولة، وجمع غفير من طلبة العلم والمواطنين.

حدثني من أثق به من أهل العلم أن القبر الذي دفن فيه الشيخ أمين سراج في مقبرة جامع الفاتح، كان قد جهز قبل ستين عاما لدفن شيخه علي رضا أفندي. لكن طغمة العسكر يومها منعت دفنه هناك، فقيض الله لتركيا رئيسا مؤمنا صالحا، هيأ الظروف لدفن الشيخ أمين سراج فيه، وهذه كرامة للشيخ أمين وللرئيس أردوغان إذ لولا أوامره لما تم الأمر، والله أعلم.

وبوفاة الشيخ العالم الجليل، انطفأ سراج من سرُج العلم في تركيا والعالم الإسلامي.

*فقرة ترجمة مختصرة، مقتبسة من مقال الشيخ مجد أحمد مكي المنشور في موقع رابطة العلماء السوريين السبت 20 فبراير/ شباط 2021، الموافق 8 رجب 1442 ه.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس