محمود عثمان - تلفزيون سوريا

ثمة تطورات متسارعة، تعكس رغبة تركية مصرية مشتركة نحو التهدئة وكسر الجمود، مرشحة لتأخذ شكل مبادرة سياسية قد تعيد بعض الدفء للعلاقات الباردة بين البلدين. لكن من المبكر لأوانه الحديث عن شراكة سياسية في الملفات الشائكة، في ظل تحولات وتفاعلات إقليمية ودولية نشطة، حبلى بإرهاصات من شأنها تغيير شكل العلاقات والتحالفات في المنطقة.

مسلسل تبادل الرسائل الإيجابية، بدأ بإعلان الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في آب/ أغسطس الماضي، عن لقاءات ومشاورات مع الحكومة المصرية، خلال حديثه عن أزمة ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط، حينها ذكر أردوغان أنه "في لقاءاتنا مع الجانب المصري يقولون لنا إن هناك سوء تفاهم بيننا يجب إزالته". وتابع أن "الشعب المصري والتركي يقفان مع بعض ويتضامنان مع بعض، وحضارتنا وتراثنا وقيمنا التاريخية أقرب مما هي مع اليونان، وعلى الحكومة المصرية أن تتفهم ذلك".

ثم تبعتها تصريحات على المنوال نفسه، صدرت عن مسؤولين في أعلى هرم للسلطة بتركيا، فقد صرح وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، قائلاً إنَّ بلاده ومصر تسعيان لتحديد خارطة طريق بشأن علاقاتهما الثنائية، مشيراً إلى أن التواصل الاستخباري بينهما مستمر لتعزيز العلاقات، وأن الحوار قائم على مستوى الخارجية، مؤكدا وجود مساع للتحرك وفق مبدأ عدم التضارب بالمحافل الدولية.

وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، ثمن احترام مصر للجرف القاري التركي خلال أنشطتها للتنقيب شرقي المتوسط، مؤكدا أن ذلك تطور مهم، وقال أكار إن تركيا ومصر لديهما قيم تاريخية وثقافية مشتركة، معربا عن ثقته بأن تفعيل هذه القيم يمكن أن ينعكس على حدوث تطورات مختلفة في الأيام المقبلة، وأكد أن القرار المصري المتمثل باحترام الصلاحية البحرية التركية بالمتوسط، يصب كذلك في مصلحة حقوق ومصالح الشعب المصري، وأعرب عن اعتقاده بإمكانية إبرام اتفاقية أو مذكرة تفاهم مع مصر في الفترة المقبلة، بما يتماشى مع اتفاق الصلاحية البحرية المبرم مع ليبيا، المسجل لدى الأمم المتحدة.

تصريح آخر صدر عن المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، في مقابلة مصورة أجرتها وكالة بلومبيرغ الأميركية، قال فيها قالن: "يمكن فتح صفحة جديدة في علاقتنا مع مصر ودول الخليج من أجل المساعدة في تحقيق السلام والاستقرار الإقليميين".

ووصف في حديثه، مصر بـ "قلب العالم العربي"، لافتا إلى استمرار المباحثات بين البلدين في عدة قضايا، واستعداد أنقرة لترميم علاقتها مع القاهرة. لكنه في المقابل، شدد على أن مصر "تعاني حالياً من مشكلات اقتصادية وأمنية تتفهمها تركيا بشكل كامل".

**علاقات تجارية تنمو بعيداً عن السياسة

رغم التوتر السياسي بين البلدين، سجل التبادل التجاري بين تركيا ومصر رقما قياسيا حيث بلغ حجم التجارة، 5.24 مليارات دولار.

وكشف تقرير للهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات في مصر، ارتفاع حجم الصادرات إلى تركيا، بنسبة 9.7 في المئة في 2018 لتصل إلى 2.2 مليار دولار، مقارنة بـ 1.9 مليار دولار خلال عام 2017.

بالمقابل ارتفع حجم واردات مصر من تركيا بنسبة 29 في المئة في 2018 ليبلغ نحو ثلاثة مليارات دولار، مقارنة بـ2.3 مليار دولار في 2017.

وشهد الميزان التجاري بين البلدين نموا بنسبة 20 في المئة ليتجاوز 5.2 مليارات دولارفي 2018 مقارنة بـ 4.38 مليارات خلال العام 2017.

وخلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2019 جاءت تركيا في المرتبة الرابعة بقائمة الدول المستوردة من مصر، بقيمة مليار و273 مليون دولار، وفق إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر.

ومن المتوقع أن يستمر الازدهار والتطوير في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، مع حرص وتمسك كل منهما باتفاقية التجارة الحرة بينهما، والتي تم التوقيع عليها في ديسمبر 2005، ودخلت حيز التنفيذ في مارس 2007.

وتحتل مصر مركز الصدارة في حجم التبادل التجاري بين تركيا والقارة الأفريقية، فقد أظهرت بيانات مؤسسة الإحصاء التركية، أن حجم التبادل التجاري بين تركيا والقارة الأفريقية، بلغ 179 مليار دولار، خلال الفترة الممتدة من عام 2009، حتى نهاية العام الماضي 2018.

وأضافت أن 66% من المبلغ المذكور (117.5 مليار دولار)، يعادل قيمة التبادل التجاري بين تركيا وبلدان شمال أفريقيا، وباقي المبلغ مع الدول الأخرى في القارة.

**تحديات تواجه العلاقة بين تركيا ومصر

في 27 من نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، وقع الرئيس رجب طيب أردوغان، مذكرتي تفاهم مع رئيس الحكومة الشرعية الليبية السابق فائز السراج، الأولى تتعلق بالتعاون الأمني والعسكري، والثانية بتحديد مناطق الصلاحية البحرية، بهدف حماية حقوق البلدين المنبثقة عن القانون الدولي.

وفي الوقت الذي كانت تركيا تتنازع فيه مع اليونان، بشأن حقوقها في موارد الطاقة بمنطقة شرق البحر المتوسط، قامت مصر بتأسيس "منتدى غاز شرق المتوسط"، في يناير 2019، بعضوية كل من إسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية.

وقد سهلت اتفاقات ترسيم الحدود البحرية بين كل من مصر وقبرص واليونان دراسة وتنفيذ مشاريع تتعلق باستخراج الغاز الطبيعي، وموارد أخرى في شرق البحر المتوسط، بينما ظل الخلاف يتصاعد بين تركيا واليونان بتحريض مباشر من فرنسا.

في شهر فبراير/ شباط الماضي، طرحت مصر مزايدة للتنقيب عن النفط والغاز في منطقة شرق البحر المتوسط، مع الأخذ بعين الاعتبار الحدود المشروعة للجرف القاري التركي، في خطوة استراتيجية يترتب عليها نتائج مهمة، في إطار الجغرافيا السياسية لمنطقة شرق المتوسط عموما، والعلاقات التركية المصرية على وجه الخصوص. وبالفعل لم تبق اليد المصرية معلقة في الهواء، إذ سرعان ما امتدت إليها اليد التركية لترد التحية بمثلها، وربما أحسن منها، فتوالت التصريحات التركية مرحبة بعودة الدفء إلى العلاقات بين البلدين.

يبقى التحدي الأكبر في وجود بعض قيادات المعارضة المصرية على الأراضي التركية، الأمر الذي يشكل عامل قلق للحكومة المصرية.

تركيا تقول إن وجود بعض قيادات المعارضة عقب الربيع العربي على أراضيها، إنما حصل بدواعٍ إنسانية بحتة، ولا علاقة لها بالخلافات السياسية أو/ والأيدلوجية بين أطراف النزاع في المنطقة.

لا شك في أن التصريحات المتفائلة وإبداء النوايا الحسنة، على أهميتها لن تكون كافية، خصوصا بعد سنوات من القطيعة والتراشق الإعلامي القاسي، ما لم يتم البناء عليها، من خلال مصارحة تبني جسور الثقة بين الطرفين، وتؤسس لخطوات عملية، تمضي قدما في القضايا المتفق عليها، وتتجنب الصدام والصراع في القضايا الخلافية.

**فرص بناء تحالفات جديدة في الشرق الأوسط

يقول الصحفي محمد معوض مدير تحرير قناة الجزيرة الأخبارية: "ما يحدث الآن في الشرق الأوسط من تعزيز للحوار بين محاور اختلفت حد َّالعداء والاستهداف والاستنزاف، سببه المباشر عودة واشنطن لموقعها الناظم التاريخي. نعم لم تعد واشنطن شرطي المنطقة لكنَّ بقاءها ذلك اللاعب الناظم للمشهد الذي لا يمكن شراء سكوته هو الذي يمنع دولا من الممارسات المارقة"!.

ويضيف "معوض" قائلا: "لقد عززت سياسة الإدارة السابقة منطق دبلوماسية الصفقات الذي يعني أنه يمكن لأي دولة لديها صداقة مع واشنطن أن تحصل على سكوت مؤقت عن مغامراتها المارقة طالما أنه يمكنها دفع المقابل بصفقات أو عقود يمكنها أن تنعكس مباشرة على صورة الرئيس الأميركي داخليا تبعا لبرنامجه السياسي ومحدداته".

الفترة الحالية من حكم إدارة الرئيس الأميركي الجديد جوزيف بايدن، التي تعتمد سياسة الحياد والسكوت الأميركي تجاه منطقة الشرق الأوسط، تشكل فرصة ذهبية تاريخية من أجل بناء علاقات وتحالفات إقليمية جديدة، بين الدول الرئيسية في المنطقة، وفي مقدمتها تركيا ومصر، على أن تبنى تلك التحالفات على أساس المصالح المشتركة للدول لا على أساس أيديولوجيا القناعات المسبقة.

تركيا من جانبها بدأت بخطوات من شأنها ترميم الجسور وتعزيز الثقة بين البلدين، والإشارات الواردة من القاهرة تبادل التحية بمثلها، مع قدر من الحذر.

فهل تشهد الأيام القادمة خطوات أكثر جرأة وحيوية، تبدأ بعودة السفراء إلى عواصم البلدين، ثم الانتقال إلى مرحلة التنسيق والتعاون على مستوى القضايا الاستراتيجية؟.

 

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس