د. وسيم بكراكي - خاص ترك برس

مع تسارع التصريحات التركية الأخيرة في العديد من الملفات السياسية الخارجية في الشأن التركي، يمكننا أن نستنتج بأن ثمة قرار قد تم اتحاذه حكوميا بإنهاء العديد من الملفات العالقة والانتهاء من تبعيتها لإعادة خلط الأوراق من جديد مع ما يتناسب مع المرحلة الجديدة التي تواجهها تركيا عالمياً منذ تغير الرئيس الأميركي وإعادة تسليط الضوء على ملفات سيادية أساسية بالنسبة لتركيا كمواضيع دول الجوار سوريا والعراق واليونان وقبرص ,اذربيجان وأرمينيا وأوكرنيا. وكل منها له من الملفات المختلفة التي تتوجب على أنقرة اختزال الخلافات القائمة وتوحيد الصفوف بشكل يسمح لها بالتحرك بشكل أسهل مما هي عليه الآن.

في مثل هذا الوقت، نجد أن المرحلة أصبحت تقتضي إنهاء الملفات التي يمكن تسميتها باسم "الملفات المنتهية الصلاحية" كالملف الأذربيجاني/الأرميني أولاً والذي تم التعامل معه بطريقة حازمة أنهت الملف عسكرياً بشكل لم يكن لأحد أن يتوقعه بعد أن بقي عالقاً قرابة ثلاثين عام، ومن ثم اليوم الملف المصري عبر اللقاءات الإستخباراتية التي دامت أكثر من عام كما يبدو، ثم الملف السعودي والذي يبدو أنه في حالة ترقب لنتائج حلول الملف الأسبق المصري-التركي وما سينتج عنه من انفراجات ، ولاحقت ربما نصل إلى حلحلة الملف الإماراتي الذي يعتبر لدى تركيا رأس الحربة في معظم هذه الملفات.

وإذا ما أردنا التفصيل أكثر بالملف المصري فإننا سنجد عوامل كثيرة كانت تؤكد أن هذا الملف قد أصبح منتهي الصلاحية ولا يمكن الإستمرار فيه على نفس الطريقة التي كانت أيام ثورة رابعة وانتفاضة رفض الإنقلاب العكسري بقيادة عبد الفتاح السيسي ومشاهد المقاومة التي كانت تقدمها المعارضة المصرية للإنقلاب التي لو استمرت لاستمر الدعم التركي لها حتى أخر لحظة. إن الملف المصري اليوم هو بالنسبة لكل المتابعين ملف لم يعد للمعارضة المصرية فيه أي تحرك ولم يعد هناك أي شيء ينتظره المتابع إلا أن يقبض الله تعالى روح قائد الانقلاب ليتبربع على عرشه رجل آخر.

وفي المقابل نجد أن عوامل كثيرة تغيرت اقليمياً تقتضي من تركيا التفكير بضرورة كسر الجليد القائم لتعزيز مواقفها في ملفات سيادية تخاطب الأمن القومي التركي مباشرة كملف البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجه وما يمكن للتقارب التركي المصري أن يغير من المعادلة تماماً كما حصل من خلال التقارب التركي الليبي واتفاقية الحدود البحرية الشهيرة التي قلبت المعادلة التي وضعتها اليونان وفرنسا.

كما أن العامل الآخر هو موضوع مرتبط بالملف الليبي ومساعي تركيا لإنهاء هذا الملف أيضاً بشكل تحافظ فيه على مكتسباتها في المنطقة عبر تدعيم الحكومة الليبية الحالية وانهاء موضوع حفتر نهائياً وهو أمر لا يمكن أن يتم إلا عبر التقارب التركي المصري من جديد.

إذن هي ملفات حامية تحتم حصول التقارب التركي المصري من جهة مقابل ملف ثورة انتهت فعلياً بوفاة الرئيس المصري الراحل محمد مرسي رحمه الله والذي بوفاته انتهت احتمالية عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الإنقلاب باعتباره الرئيس الشرعي للبلاد. كما أن المعارضة المصرية بكامل أطيافها وبرغم مرور سنوات عديدة لم تتفق فيها بينها على قيادة موحدة ولم يتم وضع أي استراتيجية لمحاربة الإنقلاب، أو أي خطوة فعلية يمكنها أن تؤكد على وجود واستمرارية الثورة والمعارضة والرفض لهذا الإنقلاب اللهم سوى الرفض الذي كنا نشاهده عبر قنوات التلفزة المعارضة المصرية والتي يبث معظمها من مدينة أسطنبول. إذن نحن أمام ملف منتهي عند اصحابه، لا يوجد لديهم تخطيط للتغيير، معارضة منتهية الصلاحية قولاً وفعلاً وعملاً، وحوارات ضمنية وربما اتفاقيات بين المعارضة نفسها ودولة السيسي.

فما هي الجدوى من استمرار دولة مثل تركيا مع ما تمتلكه من ملفات حامية، بمقاطعة النظام المصري الحالي لاسيما بعد أن ذكرنا ما يمكن للتقارب الجديد أن يحققه من مكاسب سياسية لتركيا على أرض الواقع... وهنا أطرح السؤال الذي أعلم أنه لا يمكن لأحد أن يجيب عليه بنعم:

هل يمكن لتركيا أن تحقق أي تغيير في مصر لو قررت الاستمرار بنفس الموقف المتشدد كما كانت عليه أيام ثورة رابعة؟

اذن، هو ملف منتهي الصلاحية وعقلانية السياسة الخارجية التركية تقتضي بتغييره والإنتهاء من أعبائه. فلا يوجد في السياسة عدو دائم ولا صديق دائم... وإنما تدار الأمور بما تقتضيه كل مرحلة من موازين. وتغيير الملف لن يجعل من السيسي شريفاً ولن يعطي له صق براءة من دماء شهداء رابعة ولا من الإعدامات التعسفية التي يقوم بها حتى في شهر رمضان المبارك.

أما بالنسبة لموضوع الملف التركي السعودي، فهو أيضاً ملف متعدد الجوانب التي يجب النظر إليها بدقة وتفصيل. فكلنا يعلم أن القطيعة السعودية أتت بعد موضوعين أساسيين أحدهما الموقف التركي من قضية اغتيال الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي على أراضيها والثاني هو بالتأكيد الموقف التركي من الملف السعودي-القطري. إذن نحن نتكلم اليوم أيضاً عن ملف منتهي الصلاحية تركياً وربما سعودياً أيضاً.

فبالنسبة لشق الخلاف السعودي القطري فهو أمر منتهي الصلاحية حيث أن العلاقات عادت إلى مجاريها بشكل طبيعي بين البلدين بفضل سياسة حققت فيها تركيا أولا منع التدخل في الداخل القطري في بداية الأزمة، ثم إحباط محاولة احتلال قطر كما كان مطروحا، ومن ثم إقامة قاعدة عسكرية لتركيا في قطر وما يقدمه هذا الأمر من ايجابيات لكلا البلدين. ومنع الحصار الإقتصادي على قطر عبر تأمين جسر جوي يغطي كافة المنتجات التركية الضرورية لفك هذا الحصار.  إذن هو ملف سياسي ناجح بامتياز انتهى بعودة العلاقات القطرية السعودية إلى طبيعتها على مبدأ لا غالب ولا مغلوب وبالتالي لم يعد هناك سبب فعلي لاستمرار القطيعة التركية السعودية بناء لهذا الشق من الخلاف بعد أن تمت المصالحة وعادت الأامور بين البلدين إلى مجاريها.

الشق الثاني هو الموقف التركي من قضية اغتيال جمال خاشقجي وهو الأمر الذي استخدم فيه الجانب التركي كل ما يمكن القيام به وتم فضح العملية داخليا وعالمياً، وأصبحت تفاصيل عملية الإغتيال معروفة من القاصي والداني في متخلف أنحاء العالم وصولا إلى التقرير الأميركي الذي كان بمثابة إعلان انتهاء هذا الملف في السياسة العالمية عبر إدانة من تم إدانتهم سراً وعلانية. وفعلياً هو ملف أجبر السعودية على تجريم من قام بهذا الإغتيال بعد أن كانوا ينعمون براحة وحرية. وبالتالي لم يعد هناك ما يمكن انتظاره أو تحقيقه أكثر مما تم. وهو بالتالي ملف منتهي الصلاحية يحتسب لتركيا فيه إفشاء المتورطين وتحديد التفاصيل المختلفة... ولن تغير التصريحات الودية باحترام قرارات القضاء السعودي في هذا الملف ما تم أعلانه حقيقة ومن ثم أقر عالمياً عبر التأكيد الأمريكي كما ورد في تقرير الستخبارات الأمريكية الأخير.

ولهذا لا بد للعلاقات التركية السعودية من أن تعود لمجاريها لا سيما وأن هذا الأمر سيعود بالفائدة على كلا الطرفين فكلنا يعلم ما تواجهه السعودية في اليمن وحاجتها الماسة لدعم دولة بحجم تركيا بعد أن تركت وحيدة وتخلت عنها السياسة الأميركية في عهد بايدن الجديد.

الملف الآخر الذي نشهد فيه تسارعاً كبيراً هو ملف قبرص وهو ملف سيادي تركي نجد أن تركيا تتخذ فيه خطوات جريئة ومدوية كإعادة فتح المنطقة المغلقة في قبرص التركية والدعوة بشكل علني وواضح إلى خيار قيام دولتين منفصلتين. وهو أحد ملفات الضفط الأخرى التي تعتمدها تركيا اليوم في ملف البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجه بهدف الوصول إلى حل وسطي يحافظ على حقوق تركيا الجغرافية والتاريخية والوطنية.

إذن نحن بصدد ملفات منتهية بدأت فعليا الإعدادات لانهائها قبل مدة لا نعلمها وما نراه اليوم هو فقط التدرج في إعلان عودة العلاقات إلى مستوى يؤمن العودة التدريجية إلى الودية في العلاقات...

كل ذلك في فترة تحتاج فيه تركيا إلى الاهتمام بالمواضيع الداخلية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا استعدادا لانتخابات عام 2023 والتي يمكن لأي متابع للشأن التركي أن يشاهد حماوة وطيسها منذ أعلن حزب العدالة تشكيلته الجديدة دون أن ننسى ملفات مهمة كملف الدستور الجديد والأزمة الصحية العالمية وملفات بحر الأبيض المتوسط من جهة والبحر الأسود بين روسيا واوكرانيا من جهة أخرى والحرب الباردة مع الاتحاد الاوروبي وخروج تركيا من اتفاقية اسطنبول والعلاقات المتوترة مع كل من الجانب الأمريكي من جهة والروسي من جهة أخرى في ملفات كبيرة جميعها يخاطب السياسة التركية عن قرب ويحتم على تركيا إقفال ما هو منتهي فعليا من ملفات لن يكون الملف المصري أولها ولا السعودي آخرها بالتأكيد.

عن الكاتب

د. وسيم بكراكي

كاتب لبناني


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس