سعيد الحاج - الجزيرة
النظام الرئاسي
حُكِمت الجمهورية التركية بالنظام البرلماني لعقود طويلة، لكن دستور عام 1982 -الذي صيغ بعد انقلاب 1980 وعلى عين المؤسسة العسكرية التي نفذته- تضمن عدة إشكالات، من أهمها تعارض الصلاحيات بين رئيس الجمهورية الذي يفترض أن يكون منصبا فخريا ورئيس الحكومة الذي يفترض أن يكون رأس السلطة التنفيذية.
الرغبة في تعديل الدستور لتجاوز هذه الإشكالات -التي يُظن أن بعضها على الأقل كان مقصودا لـ"ضبط" أداء الحكومات المتعاقبة- تحول منذ ثمانينيات القرن الماضي إلى قناعة لدى الأحزاب السياسية بحاجة البلاد إلى دستور جديد ومدني.
إلى ذلك، فقد راودت فكرة تغيير النظام من برلماني إلى رئاسي عددا من القيادات السياسية التركية خلال العقود الماضية، لكن أحدا منهم لم يصل لمرحلة الخطوات العملية.
وحده العدالة والتنمية -الذي يحكم منذ 2002- نقل الأمر لمساحة الفعل، ولا سيما مع فكرة ترشح أردوغان للانتخابات الرئاسية في 2014، حيث دعا في انتخابات يونيو/يونيو 2015 إلى الانتقال للنظام الرئاسي، وجعل ذلك عنوان حملته الانتخابية، إلا أن تراجعه في تلك الانتخابات ثم إعادتها أجَّل الأمر قليلا.
بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016 -وبمبادرة من حزب الحركة القومية الذي تحالف معه بعدها- طرحت مجددا فكرة النظام الرئاسي، وأقر الأمر في أبريل/نيسان 2017 من خلال استفتاء شعبي، لتجرى انتخابات 2018 وفق النظام الرئاسي المستجد.
منذ البداية وجهت المعارضة انتقادات لبعض مواد وتفاصيل النظام الجديد، ولا سيما ما يرتبط بمبدأ الفصل بين السلطات، خصوصا ضعف السلطة التشريعية مقابل التنفيذية.
من جهته، قال الحزب الحاكم إن أي نظام جديد سيكشف لدى تطبيقه عن أخطاء نواقص وثغرات يمكن استدراكها مع التطبيق العملي ومع الوقت، وقد شكل لاحقا لجنة برئاسة نائب الرئيس فؤاد أوقطاي لحصر وإحصاء ما ينبغي استدراكه وتعديله في النظام، دون أن يعلن عن مواد محددة يتجه لتعديلها.
ومع عودته للحديث عن ضرورة صياغة دستور جديد للبلاد ووعده بتقديم مقترح له قريبا فإن العدالة والتنمية ومعه معظم الأحزاب الأخرى تتفق على ضرورة تعديل بعض القوانين والمواد الدستورية، وفي مقدمتها قانونا الأحزاب والانتخاب، وهو أمر ما زال في إطار التباحث والدراسة والمقترحات.
استدراكات
في لقاء مطول جمعه مؤخرا مع أردوغان قال رئيس حزب السعادة تمل كاراموللا أوغلو إنه تباحث مع الأخير في موضوعات عدة، في مقدمتها فكرة التحالف الانتخابي بين الحزبين وكذلك النظام الرئاسي.
وبخصوص الأخير، قال كاراموللا أوغلو إن الرئيس التركي (رئيس حزب العدالة والتنمية) لا يرى في النظام إلا مشكلة واحدة هي "50%+1″، في إشارة إلى النسبة المطلوبة لانتخاب الرئيس.
هذه الفكرة نفسها تناولها جميل جيجك رئيس البرلمان الأسبق عضو اللجنة الاستشارية العليا في الرئاسة الذي قال إن اشتراط الحصول على نصف أصوات الناخبين لتولي منصب رئاسة الدولة "سيسبب مشاكل مهمة، الآن ولاحقا"، ويمكن أن "يجر تركيا للفوضى".
جيجك -الذي قال إنه يبغي مصلحة تركيا وليس حزبه الحاكم أو المعارضة- ذكر أيضا بعض التعديلات المطلوبة على النظام الرئاسي، مثل زيادة رقابة البرلمان على الحكومة، من قبيل زيارة الوزراء للجان البرلمانية ذات العلاقة وتقديم المعلومات لها بشكل دوري، مؤكدا أن هذه التعديلات يمكن أن تجرى دون الحاجة لتغيير النظام والعودة للنظام البرلماني كما تدعو المعارضة.
الرد على الرئيس الأسبق للبرلمان أتى على لسان رئيس حزب الحركة القومية دولت بهجلي المتحالف مع العدالة والتنمية، والذي قال إن "كلام جيجك يثير الشكوك"، وإن "هذا النقاش لا حاجة له"، من باب أن "50%+1" هي ضمانة النظام الرئاسي الذي هو بدوره سر الوحدة والتضامن الوطنيين"، مؤكدا أن كلام جيجك يحوي "قوة تخريبية عالية".
أما الرئيس التركي فقد كان تعليقه على الجدل الدائر بهذا الخصوص خلال كلمته أمام كتلة حزبه البرلمانية في 17 ديسمبر/كانون الأول الجاري بأن الجهة المنوط بها هذا الأمر هي البرلمان، وينبغي الانتظار إذا ما كان سيقدم على خطوة من هذا النوع، أي تغيير مادة الـ"50%+1″.
دلالات وسيناريوهات
تبدو رغبة العدالة والتنمية بتخفيض النسبة المطلوبة لانتخاب الرئيس منطقية، إذ إن شعبية الحزب في الانتخابات الأخيرة كانت أقل من هذه النسبة، وهي مرشحة لأن تكون أقل في الانتخابات المقبلة لأسباب عديدة، في مقدمتها الفترة الطويلة التي بقي فيها في سدة الحكم، والأزمة الاقتصادية، والأحزاب الجديدة التي خرجت من عباءته.
من جهة أخرى، فإن هذا يجعله محتاجا إلى التحالف و/ أو البحث عن دعم أحزاب أخرى للوصول إلى نسبة الـ50%، مما يجعل هذه الأحزاب الصغيرة -وفي مقدمتها حليفه الحالي الحركة القومية- ذات يد عليا في بعض القضايا والملفات، ويضطره للحصول على رضاها والحفاظ عليه.
ولهذا السبب الأخير تحديدا يبدو أن حزب الحركة القومية يعارض تخفيض هذه النسبة، ويستخدم في توصيفها مصطلحات تحيل إلى الأمن والوجود والوحدة الوطنية وما إلى ذلك، لأن الحزب يحظى بنفوذ واضح في الدولة أكبر بكثير مما ترشحه له نسبته في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، من باب حاجة العدالة والتنمية الواضحة لاستمرار التحالف معه، وهو ما سيخسره إذا ما تم تخفيض النسبة أو إلغاؤها بالكامل، ذلك أن الخيارات المتاحة هي خفض النسبة عن 50% لتكون "40%+1" مثلا كما في بلدان أخرى، أو عدم تحديد أي نسبة وفوز الأعلى أصواتا في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية بغض النظر عن النسبة التي حصل عليها كما يحصل مثلا في الانتخابات البلدية.
تقنيا وحسابيا، لا يملك العدالة والتنمية العدد الكافي من أعضاء البرلمان لتمرير التعديل بمفرده، ولا حتى مع الحركة القومية التي أعلنت رفضها هذه الخطوة.
من جهة أخرى، ليس من المتوقع أن تقدم أحزاب المعارضة الدعم له في هذا المسعى، إذ هو يتعارض مع مطلبها الرئيس بالعودة إلى النظام البرلماني، كما أن خطوة من هذا القبيل ستعزز فرص الرئيس أردوغان بولاية رئاسية إضافية في الانتخابات المقبلة (أقله نظريا)، فيما تسعى المعارضة للاحتشاد خلف مرشح توافقي يمكنه منافسته وربما الفوز عليه في الجولة الأولى أو جولة الإعادة.
وفي ظل ما سبق سيكون على العدالة والتنمية أن يحصل على دعم من أحزاب أخرى، إما من المعارضة التقليدية له مثل الشعب الجمهوري والجيد، أو من الأحزاب متوسطة الموقف منه مثل السعادة، أو من الأحزاب المؤسسة حديثا من رحمه، مثل المستقبل بقيادة داود أوغلو، والديمقراطية والتقدم برئاسة باباجان.
لكن هذا الدعم المفترض سيكون مرتبطا بشروط تفرضها هذه الأحزاب، وتتعلق ببعض تفاصيل النظام الرئاسي، ولأن أحزاب المعارضة التقليدية تبدو بعيدة عن موافقته في أمر كهذا، وحتى لو قدم تنازلات ترضيها فإن الأحزاب الأخرى هي المرشحة لأن تلعب دورا في هذا الملف.
وبالنظر إلى أن هذه الأحزاب غير ممثلة في البرلمان الحالي فإن فكرة تعديل المادة المتعلقة بنسبة الفوز بالرئاسيات قبل الاستحقاق الانتخابي المقبل لا تبدو مرجحة، فيما قد يكون ممكنا أن تدعم مرشح تحالف الجمهور (أردوغان) و/أو تدخل في تحالف مع حزب العدالة والتنمية، وهو أمر يبدو مستبعدا في الظروف الراهنة، لكنه قد يصبح ممكنا وربما مرجحا في سياق الانتخابات وأجوائها وظروف تحالفاتها المرشحة دائما للتغيرات والتقلبات، وهو أمر معتاد في الاستحقاقات الانتخابية التركية.
ما عدا ذلك -وإذا ما لم يحصل على الدعم المطلوب وبقي متمسكا بعدم إجراء تعديلات على النظام الرئاسي السائد حاليا- سيكون على العدالة والتنمية أن يخوض الانتخابات الرئاسية في ظروف أصعب عليه من الانتخابات السابقة في 2018، بما في ذلك احتمالات مثل مواجهة مرشح توافقي للمعارضة والاحتكام إلى جولة ثانية للحسم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس