أحمد البرعي - خاص ترك برس

تعيش تركيا هذه الأيام معارك سياسية ساخنة على أبواب انتخابات برلمانية يجمع المراقبون على أنها الأهم والأكثر حساسية في تاريخ الجمهورية التركية منذ تأسيسها 1923، يبرز في خضم هذه المنازلات الانتخابية السيد محمد غورماز وهو رئيس الشؤون الدنية التركية كمادة انتخابية للمعارضة والحزب الحاكم "حزب العدالة والتنمية"، فقد تناثرت الأنباء عن تخصيص رئاسة الوزراء التركية سيارة موديل مرسيدس يبلغ ثمنها 322 ألف ليرة "حسب ما صرح بثمنها رئيس الجمهورية في خطاباته الجماهيرية شبه اليومية" وعلى إثر هذه الأنباء بدأت حملة تشوية واتهام الرجل بالإسراف الذي لا يليق، كما تدعي المعارضة، برجل دين حري به أن يتورع عن الرفاهية والبذخ في العيش، ووصل بهم الأمر إلى مطالبته بالإستقالة وإعادة السيارة للحكومة وتطورت الأمور إلى طرح مراجعة لمدى أهمية وجود كيان "هيئة الشئون الدينية" وحتى المطالبة بإلغائه.

وقد قام السيد محمد غورماز، بعد موجة الانتقادات والهجوم عليه،  بإعادة السيارة إلى الحكومة ما دفع رئيس الجمهورية، رجب طيب أردوغان أن يخصص له سيارة مصفحة من العربات المخصصة لموكب رئيس الجمهورية وجدير بالذكر أن رئيس الجمهورة، رجب طيب أرودغان يؤكد في جميع لقاءاته الخطابية وفي لقاء مع قناة (NTV) التركية أن منصب رئاسة الشئون الدينية ليس منصباً عادياً بل هو مقام رفيع لا يقل منزلة عن مكانة "البابا" الذي يستقل السيارات الفارهة والعربات المصفحة وأضاف إلى أنه سيخصص طائرة خاصة لرئاسة الشئون الدينية بعد التشاور مع رئاسة الوزراء.

السؤال هو ما الذي جعل من رئيس هيئة الشؤون الدينية مادة للدعاية الانتخابية كسابقة لم تحدث من قبل في تاريخ الانتخابات التركية؟ هل للأمر علاقة بدغدغة عواطف الإسلاميين الفقراء خاصة الأكراد منهم؟ وهو ما يتهم حزب العدالة والتنمية بالقيام به قبل كل انتخابات من خلال طرحه "للمظلومية" وخاصة من طرف رئيس الجمهورية إذ إنه تعرض للاعتقال ويأتي من خلفية فقيرة وهو واحد من الفقراء والناس العاديين؟ أم هل للأمر علاقة بزيارة السيد غورماز للمسجد الأقصى وقطاع غزة؟!

إذ إنه وفي سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الجمهورية التركية قام السيد غورماز بزيارة رسمية إلى القدس في ذكرى الإسراء والمعراج وأم الصلاة في المسجد الأقصى عقب إلقائه خطبة الجمعة والتي تطرق فيها إلى المصاعب التي عاشتها وتعيشها القدس منذ احتلالها خلال الحرب العالمية الأولى وعقب سيطرة اليهود عليها عام 1967 وأشار إلى أن القدس قد شهدت العدل والأمان في ظل الدول الإسلامية المتعاقبة التي كفلت لغير المسلمين أداء عبادتهم بحرية وضمنت لجميع الطوائف الأمن والازدهار. وقام بعد ذلك بزيارة قطاع غزة وقال خلال حديثه عن سعادته بزيارة غزة "نحن، جميع المسلمين، لم نقم بواجبنا تجاه إخواننا المسلمين في غزة" وقال أيضا إنه "عندما تذكر العزة يتبادر إلى الذهن غزة" وانتقد بشدة العقلية التي تقوم بتدمير المساجد وتوعد بإعادة إعمار ما دمره الإحتلال من مساجد.

وما إن عاد الرجل إلى تركيا حتى ابتدأه صلاح الدين دميرطاش رئيس حزب الشعوب الديمقراطي الكردي ذو التوجه اليساري قائلاً "اعلم أيها الشيخ أنك لن تعبر الصراط يوم القيامة بسيارة المرسيدس" وطالب علماء الدين أن لا يبقوا صامتين حيال هذا الإسراف والتهور "من وجهة نظره" في التعامل مع القضايا الإسلامية وهو ما دفع داود أغلو أن يهاجمه في خطاباته الحزبية الجماهيرية اليومية في التجهيز للانتخابات القادمة وخاصة بعد أن صرح دميرطاش في يوم العمال العالمي في الأول من أيار/ مايو آيار قائلاً "إن ميدان التقسيم للعمال واليساريين كالكعبة للمسلمين". وقال أيضاً إن هناك مراكز ومعابد للمعتقدات الدينية "والقدس مقدسة لليهود". وهذا ما ذهبت إليه بأن الحرب على رئيس هيئة الشؤون الدينية جاءت بعد تصريحاته وزياراته للأقصى والحرم الإبراهيمي وغزة فضلاً عن مخاطبة المتدينين الأكراد ومحاولة تصوير الحكومة الحالية برئاسة داود أوغلو بأنها حكومة تسعى لمصالحها رفاهية الحاشية المحيطة بها.

وكان وفي سياق هذه الموجة الموجهة من الهجوم والاتهام بالترف والإسراف، رئيس الجمهورية أردوغان قد تعرض لموجة من الانتقادات الحادة بعد افتتاح القصر الرئاسي الذي يضم أكثر من 1000 غرفة والذي بلغت تكاليف إنشائه 600 مليون دولار وهو ما صرح به وزير التنمية التركي "جودت يلماز" وقد اعتبرته المعارضة في حينه تبذيراً لأموال الشعب ومحاولة من أردوغان لبناء مجد لنفسه كسلطان جديد لتركيا والسعي لحياة الرفاهية والبذخ.

وهذا هو عين ما تحاول تسويقه القنوات الإعلامية التابعة لوكالة "دوغان" ذات التوجه الأتاتوركي من خلال استضافة رئيس حزب الشعوب الديمقراطي دميرطاش وتسويق برنامجه الانتخابي كمنافس حقيقي لحزب العدالة والتنمية حتى إن المفارقة الغريبة أن حزب الحركة القومية "تركي النزعة" صرح بأن تجاوز حزب الشعوب الديمقراطي "كردي النزعة" لنسبة الحسم الانتخابي ودخول البرلمان التركي هو من صالح حزب الحركة القومية بل ومن صالح الجمهورية التركية. تفرد القنوات لدميرطاش الساعات من الحوارات التلفزيونية وتوفر له المجال للحملة الدعائية ويبدأ الرجل بالحديث عن نضاله من أجل الحجاب وحقوق المحجبات في التعليم على مدار سنوات وأن إحدى أخواته محجبة ولكنه يفضل عدم استثمار ذلك النضال واستغلاله لأغراض انتخابية كما يفعل غيره مشيراً إلى طيب أردوغان.

في هذا السياق العام من الهجوم والتشويه الذي تسلكه المعارضة في دعايتها الانتخابية تبرز قصة السيارة وتتبع ذلك قصة الطائرة الخاصة إذ أنكر أردوغان على رئيس هيئة الشؤون إعادة السيارة المخصصة له بل وأصر على أن يخصص لهيئة الشؤون الدينية طائرة خاصة واستحضر في خطاباته رفعة المقام الذي يتمتع به رئيس الهيئة مقارناً إياه بأرفع مقام عند المسيحيين وكيف أن البابا يتمتع بمزايا وتسهيلات فكيف لتركيا العظيمة بدينها وتاريخها أن لا ترفع قدر من يمثل الدين الإسلامي الحنيف.

ويتهكم قائلاً: "هل تتوقعون منا أن نترك أعلى منصب ديني في الدولة يستقل التاكسي أو "الدولمش" الباص التركي الصغير الذي يستقله فقراء البلد غالباً؟!". وهذا الطرح يأتي في إطار ما يصر أردوغان على تعزيزه في نفوس مناصريه في خطاباته من رفع قيمة أهل العلم والفضل والدين فهو غالباً ما يكثر من ذكر أنه من خريجي مدارس الأئمة والخطباء وأن أبناءه الأربعة أيضاً من خريجي هذه المدارس ويفتخر بذلك ويعلن ذلك مراراً في الوقت الذي ينص فيه بيان الحزب المعارض عن إمكانية إغلاق هذه المدارس في حال فوزهم بالانتخابات القادمة وهو ما ينفيه رئيس الحزب الجمهوري الأتاتوركي "كمال كيلتشدار أوغلو" لكن أردوغان وفي مجمل خطاباته يؤكد على أن ميثاق حزبهم الانتخابي ينص على ذلك. في النهاية فقد يرى البعض أن أسلوب أردوغان أصبح أكثر قسوة وحدة في التعامل مع المعارضة ولكن آخرين يرون أن الظروف الحالية والتحالفات الداخلية والدولية ضده وضد حزبه بل وضد تركيا تستدعي هذه الشدة ولهجة التحدي وتجنب المواءمات والمداهنات السياسية. 

عن الكاتب

د.أحمد البرعي

باحث ومحاضر في قسم الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة أيدن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس