سعيد الحاج - أخبار تركيا

على بعد أيام من الاستحقاق الانتخابي في تركيا، زاد المشهد السياسي في البلاد سخونة وحيوية، وارتفعت درجة الغموض في ظل تضارب التوقعات، وهو ما يعني أن الانتخابات البرلمانية القادمة باتت مفتوحة على عدة احتمالات، في اختلاف واضح عما كان عليه المشهد قبل أسابيع. سيكون هذا موضوع مقالي الأسبوع القادم، بينما سأخصص مقال اليوم لشرح بعض الجوانب التقنية والتوضيحية حول الحملات الانتخابية في تركيا وطريقة إدارتها، وهو ما كان مثار فضول الكثيرين.

بطبيعة الحال، يبدأ الاستعداد للانتخابات قبل بدء الحملات الانتخابية بكثير، عبر عملية تحديد قوائم المرشحين الأنسب لكل محافظة ومدينة ودائرة انتخابية بعينها، وهو أمر تناولناه في مقالات سابقة.

ومع إشارة انطلاق الحملات من قبل الهيئة العليا للانتخابات، يبدأ كل حزب حملته وفق خطته التي كان قد وضعها مسبقاً، والتي تشمل تقسيم البلاد جغرافياً إلى مجموعات من المحافظات، لتنظيم أكبر عدد ممكن من المهرجانات الانتخابية في اليوم، عبر تقليل المسافة وزمن التنقل بينها، وهكذا يستطيع كل حزب أن ينظم حملتين أو ثلاثة – وأحياناً أكثر – يومياً في مدن قريبة من بعضها البعض.

وإضافة إلى هذا "التجميع" والتنسيق بين المدن القريبة، ثمة "ترتيب" في أولوية المهرجانات الانتخابية لكل حزب، بحيث يُحرص على أن تكون إسطنبول وأنقرة وإزمير – والمدن الكبيرة بشكل عام – متأخرة قدر الإمكان لتكون قريبة من موعد الانتخابات، وأحياناً يتم اللجوء إلى أكثر من فعالية انتخابية – وليس بالضرورة مهرجان – في هذه المدن الكبيرة.

يقود معظمَ هذه المهرجانات الانتخابية وأهمَّها رؤساءُ الأحزاب الذين يحرصون على التواجد في معظمها، بينما يتولى نواب وقادة الحزب الآخرين قيادة بعض المهرجانات في المدن الصغيرة أو تلك التي يضعف فيها احتمال فوز الحزب (جنوب شرقي تركيا مثلاً في حالة الحركة القومية) أو بعض الأنشطة الصغيرة، مثل افتتاح مكاتب انتخابية في البلدات والأحياء.

على مستوى الشكل والتنظيم، تعتبر المهرجانات الانتخابية “كرنفالية” أو احتفالية بامتياز، إذ يُحرص على الحشد الكبير، والهتافات الصادحة، والتفاعل مع الجماهير، في ظل الأغاني والشعارات والأهازيج التي أعدت خصيصاً للمناسبة الانتخابية. ويتضمن البرنامج عادة كلمة رئيسة للحزب – يلقيها في الغالب رئيسه – وتعريفاً بمرشحي المدينة أو المنطقة، وبعض الفعاليات الأخرى على هامش المهرجان.

أما فيما يخص مضمون الخطاب، فلا يستثني شيئاً تقريباً، ونستطيع أن نقول بلا مبالغة أن كل شيء فيه مباح. عادة ما يبدأ المتكلم حديثه للجموع بالترحيب بهم، من خلال ذكر أهمية المدينة تاريخياً أو حديثاً، أو الترحم على مشاهيرها من قادة السياسة والعلم والفكر، أو التذكير بأحداث معاصرة زادت من أهمية المدينة. مثل ذكر محمد الفاتح في إسطنبول، أو جلال الدين الرومي في قونيا، أو صلاح الدين الأيوبي في المناطق الكردية، أو تذكير “سييرت” بأنها المدينة صاحبة الفضل الكبير في التجربة التركية الحالية باعتبارها المكان الذي ترشح وفاز فيه اردوغان بعد فترة الحظر السياسي.

ومن البديهي أن تركز الكلمة الملقاة على مسامع الأنصار على برنامج الحزب الانتخابي، لكن بتبسيط شديد يتناسب مع فهم العامة، وبإظهار التمايز والتميز عن الأحزاب الأخرى. وبينما لدى الحزب الحاكم إمكانات إضافية مثل ذكر الإنجازات التي حققها لتركيا في فترة حكمه، تحاول أحزاب المعارضة عرض زوايا أخرى، مثل المشاكل التي لم تحل أو بعض الإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية.

ويمكن تقسيم الخطاب الانتخابي إلى قسمين كبيرين، الأول هو المحضَّر مسبقاً، ويتضمن – كما ذكرنا – البرنامج والوعود والانتقادات، والثاني مستحدث يتناول الأحداث اليومية، ويهتم بالرد على خطاب الأحزاب المتنافسة وتفنيد مقولاتها. ولا يغفل المتحدثون استثمار المستجدات والتطورات الحالية أو مرور ذكرى بعض الأحداث التاريخية، مثل حكم الإعدام على الرئيس المصري المنقلــّب عليه، أو ذكرى انقلاب 1960 وإعدام رئيس الوزراء السابق عدنان مندريس ..الخ.

ومن الملاحظات الرئيسة على أسلوب الخطاب الانتخابي الحدة البالغة والمصطلحات المستعملة بحق الأحزاب المتنافسة، والتي وإن كانت أمراً معتاداً في تركيا، إلا أن هذه الانتخابات رفعت سقفها كثيراً، حيث يُتـَّهم العدالة والتنمية بالسرقة والفساد، والشعب الجمهوري بدعم الانقلابات، والشعوب الديمقراطي بأنه ذراع للإرهاب (في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني). والملاحظة الأخرى هي استغراق الكلمات الخطابية في التبسيط والتحفيز و"الشعبوية" في اختلاف واضح عن سمت الخطابات السياسية العادية، فترى المتكلم يسعى جاهداً لإثارة الجماهير واستثارة تفاعلها بأسئلة وشعارات وهتافات مقصودة لذاتها.

أما النقطة الأخيرة التي يمكن لنا سردها في عجالة هذا المقال فهو حضور السياسة الخارجية – القضايا العربية تحديداً – بقوة في المنافسة الانتخابية وبشكل غير مسبوق في تركيا. فالقضية السورية أخذت بعداً كبيراً وصارت محل أخذ ورد بعد تصريح زعيم المعارضة بنيته "إعادة" اللاجئين السوريين إلى بلادهم حال فوز حزبه، كما أن القضية الفلسطينية – القدس على وجه التحديد – دخلت مضمار المنافسة بعد تصريح رئيس حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) أن ميدان “تقسيم” مقدَّس في عرفهم، مثلما القدس مقدسة بالنسبة لليهود.

في الخلاصة، تمتلك تركيا تقاليد ثرية فيما خص التجربة الديمقراطية والحملات الانتخابية، زادت سخونتها بدرجة ملحوظة في هذه الانتخابات البرلمانية تحديداً لعدة أسباب. ولئن كان من المعتاد أن تعود الأمور إلى نصابها بعد كل منافسة ديمقراطية، إلا أن الكثير من المراقبين  يخشون أن يغدو جو الاستقطاب الحالي عصياً على التهدئة والتنفيس ما بعد الانتخابات، وهو ما قد يرخي بظلاله على المشهد السياسي التركي بشكل عام.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس