د. سمير صالحة - أساس ميديا

الربيع في منطقة الساحل المطلّ على مضيق البوسفور في الشقّ الأوروبي من إسطنبول ولا أجمل. آلاف أزهار التوليب تبشّر بولادة موسم جديد يودّع موجات البرد والثلج التي كانت قاسية هذا العام.

قصر "دولمه بهشه" التاريخي الذي كان شاهداً على عشرات العقود والاتفاقيات والأحداث التي جُمعت أواخر العهد العثماني عند الانتقال إلى الجمهورية العلمانية الأتاتوركية الحديثة، والواقع في حيّ بشيكتاش، قلب هذا الساحل النابض، كان أمام امتحان فرصة ربيع سياسي آخر قبل يومين يساهم في دفع مسار ملف الأزمة الأوكرانية نحو الحلحلة والتسويات.

وقف وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو أمام العدسات عند انتهاء جولة المفاوضات الجديدة بين الوفدين الروسي والأوكراني ليشكر كلّ المشاركين على ما بذلوه من جهود "لتسجيل التقدّم الأكثر أهميّة منذ بدء المباحثات الروسية الأوكرانية حتى اليوم". شاووش أوغلو الذي تخلّى في اللحظة الأخيرة عن قرار مشاركته في الوفد التركي المرافق للرئيس رجب طيب إردوغان في زيارته العاصمة الأوزبكية طشقند، كان عليه أن يبقى مع كوادر الخارجية التركية لمتابعة تفاصيل المفاوضات وما سينتج عنها، خصوصاً أنّ إسطنبول هي من يستضيف الطرفين في محاولة جديدة لإنجاح جهودها على طريق التهدئة والحلحلة في ملف الأزمة الأوكرانية.

زيلينسكي – بوتين

يقول إردوغان اليوم إنّه لكي يتمّ التوصّل إلى اتفاق في قضايا معيّنة، فإنّ هناك حاجة إلى اجتماع الرئيسين الروسي والأوكراني. ويقول مستشار المكتب الرئاسي الأوكراني ميخائيل بودولياك إنّ نتائج اليوم الأوّل من مفاوضات إسطنبول مع الجانب الروسي كافية لعقد لقاء بين زعيميْ البلدين. تطوّر مهمّ شهدته إسطنبول بشهادة طرفيْ الصراع يختلف عن نتائج قمّة أنطاليا التي جمعت قبل 3 أسابيع وزراء خارجية تركيا وروسيا وأوكرانيا. فهل هذا هو رأي واشنطن وحلفائها في العواصم الأوروبية أيضاً؟ وهل تلتزم روسيا بما قيل عن أجواء إيجابية انفتاحية خرجت بها مفاوضات إسطنبول؟

يقوم الطرح التركي منذ البداية على إنجاز تفاهمات تقنية بين خبراء الوفدين الروسي والأوكراني تقود إلى لقاء يجمع مجدّداً سيرغي لافروف وديمترو كوليبا، ويُتوّج بلقاء قمّة بين بوتين وزيلينسكي أمام طاولة صناعة التفاهمات السياسية الكبرى.

من بين أولويّات أنقرة أيضاً المساهمة في تحديد شكل وآليّة تنفيذ الاتفاقيات، وتحديد الجهات الإقليمية والدولية التي ستوفّر الغطاء القانوني والسياسي لذلك تحت تسمية "مجموعة الأطراف الضامنة". خصوصاً أنّ زيلينسكي يردّد منذ فترة أنّ بلاده تريد ضمانات أمنيّة ملزمة من قبل مجموعة من الحلفاء توفّر لأوكرانيا الحماية في المستقبل. هناك الطرح الأوّل الذي يتحدّث عن تركيبة تضمّ مجموعة "5 + 2" (الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن إلى جانب تركيا وألمانيا). وهناك الطرح الثاني الذي يرمي الكرة في ملعب الأمين العام للأمم المتحدة ليحدّد بالتنسيق مع موسكو وكييف لائحة أسماء الدول التي يتمّ الاتفاق عليها للإشراف على تنفيذ الاتفاقيات، وهي دول تبنّت الحيادية الإيجابية حيال الأزمة منذ بدايتها حتى اليوم.

لكنّ السؤال الذي يتجاهله البعض، والذي ينتظر الإجابة عليه قبل إعلان الفرحة الكبرى، يتعلّق بفرص تسجيل اختراق حقيقي باتجاه السلم في حوض البحر الأسود من دون فتح الأبواب أمام حوار استراتيجي بين موسكو وواشنطن في ملفّات خلافية يتزايد عددها وتتفاقم أسبابها.

هل من الممكن أن يتوافر الحلّ في أوكرانيا من دون لقاء قمّة أميركي روسي يبرّد سخونة الجبهات الإقليمية بين الطرفين التي باتت مهدّدة بالتحوّل إلى انفجار ومواجهة مباشرة يقترب موعدها وتتكاثر ساحات الاحتكاك فيها؟ وهل تعطي واشنطن الكرملين ما يريده بعد تدمير المدن الأوكرانية وتهجير سكّانها ونسف التوازنات التي بنتها الإدارات الأميركية المتعاقبة في شرق أوروبا ومنطقة البحر الأسود منذ العام 1990 حتى اليوم؟

 

موقف أميركا من الحلّ؟

كانت موسكو تبرّر عدوانها على أوكرانيا بأسباب تاريخية وجغرافية وقومية تخوّلها "استرداد ما هو لها" وتعطيها حقّ التدخّل العسكري في إطار حقّ الدفاع عن النفس. وكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يقول إنّه إذا ما تخلّت أوكرانيا عن سلاحها، وقرّرت الاعتراف بخصوصية إقليم دونباس وأن تكون دولة حيادية بعيدة عن حلف شمال الأطلسي، فسنوقف عمليّتنا العسكرية هناك. أمّا الرئيس الروسي بوتين فكان يحذّر مَن سيقف في وجه "الإجراءات" الروسية أو مَن "سيشكّل خطراً على دولتنا وشعبنا" من أنّه سيجد نفسه أمام نتائج لم يكن يفكّر فيها.

روسيا اليوم فرحة لأنّها قد تخرج من الأزمة كما الشعرة التي تُسحب من العجين، تاركةً أميركا وسط مشكلة مغادرة العرس بلا قرص. لكنّ واشنطن هي العقدة، وهي التي قد تفاجىء الجميع بخلط أوراق حسابات الحقل والبيدر. إذ ما الذي يدفع العواصم الغربية، وتحديداً أميركا، التي نجحت في الأسابيع الأخيرة في تضييق الخناق على روسيا دولياً وأممياً، ومحاصرتها بعد سقوطها في المصيدة الأوكرانية، إلى انتشال بوتين ورفاقه من المستنقع؟ ولماذا تقدّم الإدارة الأميركية هذه الخدمة للكرملين بعد كلّ هذا الدعم العسكري والمادي والتجييش والتعبئة الإعلامية والاصطفافات الدولية ضدّه، فينتهي الأمر بأن يجلس بوتين اليوم أمام طاولة يأخذ ما يريده بالدبلوماسية بعدما فشل في تحقيق ذلك بقوّة السلاح؟

ما يقلق روسيا أكثر من غيره هو السياسة الأميركية الغربية المحتملة في المرحلة المقبلة بعد إنجاز التفاهمات مع أوكرانيا. قد تدعم واشنطن هذه التفاهمات، وقد لا تعرقلها، لكنّ خطواتها التصعيدية بشقّها السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والقضائي ضدّ موسكو لن تتوقّف، وهذا ما يبدو من خلال المواقف والتصريحات الأميركية المعلنة بعد انتهاء جولة المفاوضات الأخيرة في إسطنبول.

 

أميركا تطارد بوتين

يبقى أنّ لعب ورقة المجتمع الدولي الذي يجمع الغرب الموحّد وراء الولايات المتحدة الأميركية في قرار زيادة الدعم العسكري والمادّي لأوكرانيا، ومضاعفة خطوات الحصار والعقوبات المفروضة على روسيا، إلى جانب قرارات وتوصيات وتحرّكات الهيئات الدولية والأممية، مثل الجمعية العامّة للأمم المتحدة والجنائية الدولية ومنظمة حقوق الإنسان، هي كلّها ما يقوّي الموقف الأميركي اليوم. فلماذا تفرّط بهذه الأوراق في مواجهة روسيا المعزولة أمام المجتمع الدولي؟

نتائج محادثات "دولمه بهشه" تحتاج إلى تجاوز العقبة الأميركية، وبوتين يعرف جيداً أنّ هدف أميركا بعد الآن هو محاصرته في الداخل الروسي بقدر ما ستعمل واشنطن على تضييق الخناق عليه إقليمياً ودولياً. لكنّها تحتاج أيضاً إلى من يطمئن موسكو التي ستتخلّى عن تشدّدها ومواقفها التصعيدية وشروطها المعلنة قبل عمليّتها العسكرية ضدّ أوكرانيا، إلى أنّ مشكلتها لن تكون مع الغرب وأميركا بعد ذلك. هل تقبل موسكو طاولة تفاهمات تُنهي الأزمة الأوكرانية، وهي تعلم جيّداً أنّ الإدارة الأميركية ستطاردها حتى النهاية لتحميلها مسؤولية حصاد ما زرعته في أوكرانيا؟

يعرف بوتين أيضاً أنّ وقف المعارك الحربية داخل المدن الأوكرانية ودعوة القوات الروسية إلى الانسحاب بعد كلّ هذا القتل والدمار والتهجير قد يكون نتيجة مفرحة للكثيرين. لكنّ المسألة بالنسبة إلى أميركا لن تنتهي حتماً عند اتفاقية وقف إطلاق النار أو الهدنة التي تتمّ مصحوبة بتفاهمات سياسية بين طرفيْ النزاع.

إعادة إعمار أوكرانيا

كانت موسكو تتطلّع إلى لقاء روسي أميركي على مستوى القمّة لصناعة تفاهمات استراتيجية وتقاسم نفوذ في منطقة البحر الأسود بعد عدوانها على أوكرانيا، لكنّ واشنطن لم تعطِها ما تريد حتى الآن، وهي لن تفعل ذلك بعد توقيع اتفاقية السلام الروسية الأوكرانية. الحديث في موسكو عن انتصار سياسي ودبلوماسي تمّ تحقيقه بعد العملية العسكرية داخل الأراضي الأوكرانية، ثمّ الذهاب إلى طاولة مفاوضات مع كييف قد يقنع المواطن الروسي، لكنّه لن يقنع العواصم الغربية والولايات المتحدة الأميركية تحديداً.

هل يكفي أن يُقال إنّ الأثرياء الروس، وعلى رأسهم رومان أبراموفيتش، سيساعدون على إعادة بناء ما تهدّم في أوكرانيا ليقبل الغرب بالدخول في صفقة تفاهمات مع موسكو؟

كلّ هذا التمويل والدعم لكييف لمقاومة روسيا قد يفتح الطريق أمام جلوس الوفد الروسي وراء طاولة توقيع اتفاقية وقف إطلاق نار ومصالحة روسية أوكرانية. لكنّ خيبة الأمل التي قد تواجه الكرملين في المرحلة المقبلة ستكون بعد إنجاز تفاهمات وقف إطلاق النار والخروج بالتسوية السياسية مع أوكرانيا.

المسألة بالنسبة إلى واشنطن أبعد وأهمّ من تفاهم لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم، والأزمة الحقيقية التي تنتظر روسيا ستكون مع المجتمع الدولي وسبل حماية مصالحها وعلاقاتها مع اللاعبين الإقليميين والدوليين عند رسم الخرائط الاستراتيجية الجديدة لتقاسم النفوذ.

بعد ساعات على انتهاء الجولة الأولى من المفاوضات الأخيرة في إسطنبول وإعلان موسكو قرار إبعاد قواتها عن العاصمة الأوكرانية، بدّلت القوات الروسية موقفها بشكل سريع، إذ لم تتوقّف الصواريخ البعيدة المدى والمدفعية الروسية عن استهداف كييف حتى ساعات الصباح الأولى.

 

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس