مهنا الحبيل - الوطن

في المقال الثاني من تناول الانتخابات التركية سنعرض لمفاصل مهمة في الحوار مع أحزاب المعارضة، عن ماذا تعني لهم العلاقة مع العرب اليوم، وماذا سيترتب عليها لو صعدت بالفعل أمام العدالة وحَجَّمَت قُدرتها على تشكيل حكومة غالبية قوية، وماذا يعني تبعاً لذلك ما مورس على تركيّا »العدالة« من أطراف عربية في الفترة السابقة، من هجوم استهدفها واستهدف أردوغان شخصيا، ولا يزال بعضه يعمل.

ومن المهم هنا أن نبدأ بحزب السعادة الإسلامي لا لقوته اليوم في خريطة المعارضة السياسية، ولكن لطبيعة تكوينه الأيدلوجي الذي ربطه بالمنطقة العربية عبر الفكرة الإسلامية، أمام جفاء أو مناهضة للأحزاب الأخرى بطبيعة قوميتها المتشددة أو علمانيتها المتطرفة، والتي تُنحي الإسلام عن الرابط المشترك مع العرب، إن لم تناهضه، والحوار الذي دار بيني وبين السكرتير العام لحزب السعادة السيد تاج الدين، كان صريحاً وواضحاَ، واحتل أكثر وقت اللقاء كون ملف إيران اليوم قد أبعد الحزب الإسلامي العريق عن علاقاته الإسلامية العربية وأضر بها كثيراً.

كما أن الموقف الذي تحتفظ به القاعدة الشعبية العربية لأربكان من إعادة الهوية الإسلامية لتركيا، وموقفه التاريخي الصلب من فلسطين وقرار انقاذ مسلمي قبرص الذين كانوا قاب قوسين أو أدنى من حرب إبادة شُنّت عليهم من الميلشيات اليونانية المسيحية المتشددة في قبرص، بدعم من حكومتها، وغطاء ضمني من الغرب، لا يزال موقفا يذكره التاريخ لنجم الدين أربكان، إضافة لدقة تأكيد أردوغان الأخيرة على محورية أستاذية أربكان في مسيرة العدالة والهوية الإسلامية لتركيا.

وعليه يجدر بي كباحث أن أُشير الى خطأ ابتعاد الإسلاميين العرب عن حزب السعادة، لموقفه السيئ من قضية سوريا، أو لاستمرار احتوائه من إيران، وتحييده عن قضايا الأمة الأخرى، فلا يزال الحزب يحمل وجدانيا في قواعده مشتركات مهمة، يجب البناء عليها وصناعة العلاقة الإيجابية المصلحية لشعوب المنطقة التي تحمل ديناً واحداً ورسالة واحدة وقِبلة واحدة وشراكة تاريخية واسعة، وعدم الانسحاب أمام مشروع إيران الطائفي المفرق للصف الإسلامي. 

وبعد إصرار على أسئلة محددة أقر السيد تاج الدين، بإشكالية الصورة الإعلامية التي تنقلها وسائل الاعلام الإيراني عنهم وخاصة في قضية الثورة السورية، وإن لم يقدم لي أي شاهد، مع مطالبتي بالدليل لأي نقد من الحزب لمشاريع إيران وبرامجها الطائفية الواسعة في العراق وسوريا، مقابل تذكير الحزب بالطائفية التي تُنقل عنه بأنها موجهة للطرف السني، وهذا صحيح لدى بعض الجماعات، لكن لا يجوز أن يكون هذا الطرف السُني الطائفي حجة لتبرئة إرث وممارسة ضخمة لمشاريع إيران، التي ساهمت في خنق الاعتدال الإسلامي في الوسط السني.

إن مشكلة حزب السعادة قائمة وواضحة، وكان وقع الحوار يؤكد هذه الأزمة، وخاصة حين طرحنا صورة التوازن المفقودة كليا للحزب بين العرب وإيران، وكيف أصبحت القضية السورية ضحية لهذا التوازن المختل، وتَوَّرط الحزب تورطاً معيباً، حين اعتبر مساندة أردوغان للشعب السوري، جزءا من مؤامرة الشرق الأوسط وهو ما يردده الإيرانيون، لكن ذلك الموقف كان من الواضح أنه لا يتغلغل لأعماق الحزب وأن القيادات ذاتها تجد حرجا حين تُعيد جدولة السؤال عليها، فضلا عن قواعد الشباب.

كما أن الإشكالية الأخرى لدى حزب السعادة وغيره في تركيا، هي الخوف من بعض الخطاب الطائفي البشع في البيئة الخليجية الذي لا يعترف بإسلام مدارس أهل السنة الكبرى، فضلا عن الشيعة، ودور تلك الثقافة في تفجير حروب طائفية وخلق بيئات صراع مستمرة لا تنتهي، حوّلت كل خلاف الى مشروع صراع ثم حوّلته داعش الى مشروع احتراب، وهذه المخاوف ليست مقصورة على السعادة ولكنّ هناك من يشاركها داخل العدالة ذاته. 

ولكن في الجملة وحين نُقدّر موقف السعادة وفقا لحالة الاحتواء التي يعيشها، فإن موقفه ليس إيجابيا ولا وديا مع الوطن العربي اليوم، ونفوذه في أي تشكيلة لحكومة ائتلافية، سينعكس فيه موقفه من إيران على قضايا الأمة، وبالتالي زيادة رصيدها وبنيتها التحتية في تركيا، وفي المنطقة في وقت دقيق وخطير.

أما الحزبان الرئيسيان في المعارضة فلسنا مضطرين للتفصيل بينهما لتقارب موقفهما، فالحركة القومية وحزب الشعب الجمهوري، لديهما رصيد مخيف من المشاعر تُجاه العرب وقضاياهم، وفي سؤال للقيادي في حزب الشعب، عما يُنقل من موقفهم من اللاجئين والقضية السورية، حيث رغبتُ في نقل موقفهم مباشرة منهم، أكد لي هذه الحقيقة وقربهم من موقف نظام الأسد وإيران، وهو ما يبرر الدعم الضخم للإعلام الإيراني لهم.

وصحيح أن البرغماتية السياسية تلعب دوراً كبيراً حين ينتصر الحزب السياسي فيخفف من لهجته، ويمد جسوره مع العرب وغيرهم بحسب المصلحة، لكن هناك مساحة من الأيدلوجية فضلا عن المصالح المتصارعة تدفع الحزب للاقتراب من إيران وإسرائيل كثيرا، على حساب العرب والعالم الإسلامي، وهناك ضريبة ليست سهلة ستَحدث في الخلل الإقليمي لو أن حزب الشعب كان قادراً على الفوز الشامل غير المتوقع أو بالتحالف مع الحركة القومية.

إن هذه الخلاصات تؤكد ان المراهقة السياسية التي مارسها بعض العرب، في أعقاب إسقاط الرئيس محمد مرسي، والحملة على أردوغان وحزب العدالة ودعم المعارضة وجماعة كولن لإسقاطه في مارس 2014، كانت توجهات كارثية، ممكن أن تقلب الواقع الإقليمي كلياً على المشرق العربي وخاصة الخليج العربي، وتصحيح هذا الموقف ليس مصلحة لتركيا العدالة فقط، بل ضرورة لمنطقة الخليج العربي، في ظل تغيّر التوازنات الإقليمية والدولية في المنطقة، وتموّج الرمال المتحركة، وجماعات العنف العابرة للحدود.

في ضوء ذلك فإن قراءة خارطة النتائج وأين ستكون مصالح المنطقة العربية فيها، لا تحتاج لكثير من الجهد بعد هذا العرض، لكن مشكلة الموقف العربي أنه يتأخر كثيراً عن تحقيق مصالحه، ثم يستفيق على دور إيراني ذكي، لم يجعل خلافه مع أردوغان موقف قطيعة بل استمر بالتواصل مع البناء السياسي والثقافي في العدالة، رغم أن أردوغان والفريق الإسلامي في العدالة غيّروا كثيرا المعادلة ضد توازنات إيران والتي لا تزال تحظى بتأييد وجسور إثر أربعة عقود من العمل.

والمشرق العربي وخاصة حكومات الخليج، ليس له من مجال لفرص التدارك اليوم، إذا استمرت حالة الترصد لأردوغان والعدالة وملاعنتهم السخيفة في الإعلام، واستفزاز جمهورهم، بل المباشرة الشاملة لخلق بناء تواصل مع هذه القوة الإقليمية الصاعدة وتصحيح الأخطاء السابقة، لمصالحهم بغض النظر عن مبادئهم. 

عن الكاتب

مهنا الحبيل

كاتب وباحث إسلامي ومحلل سياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس