ياسر عبد العزيز - الجزيرة نت

بين فترة وأخرى تهب رياح عاصفة من بحر إيجة على العاصمة التركية أنقرة، وعلى الرغم من بُعد المسافة وعدم دخول أنقرة في التأثيرات المناخية لبحر إيجة، فإن أثينا تحرك تلك الرياح بتحركات في الجزر الواقعة في ذلك البحر فتراها أنقرة استفزازية، وتراها اليونان ضرورية.

جزر إيجة بين المعاهدات الدولية والمناكفات السياسية

في تطور سريع بين الجارتين المنضويتين تحت راية حلف "الناتو" بعثت الخارجية اليونانية برسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، تدعوه لحث تركيا إلى وقف ما وصفته بالتشكيك في سيادتها على جزر بحر إيجة.

وفي المقابل نددت أنقرة بزيادة الأعمال الاستفزازية اليونانية بالمنطقة، بتسليحها الجزر المتنازع عليها، والمبرم بحقها اتفاقية عدم تسليح في معاهدة لوزان 1923 واتفاقية مونترو 1936، ثم معاهدة السلام بباريس في 1947.

وبينما ترى الخارجية اليونانية ادعاءات تركيا بتسليح الجزر اعتداء على سيادتها على تلك الجزر، ترى أنقرة أن ما تقوم به اليونان هو خرق للاتفاقيات الموقعة وللقانون الدولي بشكل عام.

تبدأ القصة قبيل سقوط الدولة العثمانية وتحديدا بعد احتلال اليونان وعدد من الدول الغربية أجزاء من تركيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وبعد تحرير البلاد من الاحتلال بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، فقدت تركيا عددا كبيرا من الجزر، عبر المعاهدات سالفة الذكر والتي وقعها أتاتورك.

ثم سقطت بيد الألمان في الحرب العالمية الثانية التي سلمتها للبريطانيين بعد أن هزمت لتسلمها الأخيرة لليونانيين، لتبني أثينا على ذلك التسليم موقفها من الجزر التي تعد "مسمار جحا" لليونان في الجرف القاري لتركيا، حيث تخنق اليونان بسيطرتها على تلك الجزر تركيا صاحبة الـ2805 كيلومترات من السواحل على البحر المفتوح على البحر المتوسط.

لكن المناكفات السياسية لم تتوقف فسجال تسليح الجزر دائر بين الجارتين منذ الستينيات، فعلى الرغم من أن الاتفاقيات المذكورة أكدت على عدم تسليح الجزر فإن اليونان ما تفتأ تحرك القطع الحربية والعتاد رغم أن النصوص تمنحها حق وجود عناصر الشرطة المدنية فقط.

ومن ثم فإن ما ترصده أنقرة من تلك التحركات تنكره بالطبيعة أثينا، وكثيرا ما دار السجال على هامش قضية تسليح الجزر في فرعيات الجرف القاري، والمياه الإقليمية الدولية، ومجالات الطيران، وانتهاكات حقوق الأقلية التركية، وهو ما يشكل في مجموعه أسبابا رئيسية لتصعيد التوتر بين أنقرة وأثينا.

هل استثنى داود أوغلو جزر إيجة من نظريته؟

يعد وزير الخارجية التركي ورئيس وزرائها لاحقا أحمد داود أوغلو هو مهندس السياسة الخارجية التركية في بداية عهد العدالة والتنمية مطبقا نظريته التي لخصها بـ(صفر مشاكل مع الجوار)، كان ذلك بمثابة إعلان عن دخول الدبلوماسية التركية مرحلة جديدة تتسم بالخروج من المشاكل الإقليمية التي عاشتها تركيا مع جوارها.

فقد أدركت تركيا – العدالة والتنمية أن النمو والتطور بمعناهما الحقيقي لا يمكن تحقيقهما إلا في جو يسوده السلام والاستقرار الدائمان، فجعلت من إنهاء المشاكل أو على الأقل تجميدها مع الجوار هدفا تسعى إليه، وتصادفت تلك الصورة التي بدأت ترسم للسياسة الخارجية التركية مع تحولات شهدها العالم.

وتبلورت تلك التحولات مع صعود العدالة التنمية لسدة الحكم فسقوط الاتحاد السوفياتي وانفصال دوله وانضمامها رويدا للمعسكر الغربي، الذي تمثل تركيا رأس حربة فيه، أثناء الحرب الباردة، ما شكل فرصا لبلورة علاقات مختلفة عن تلك التي كانت إبان الحرب الباردة بين تركيا وتلك الدول، وحتى مع روسيا نفسها.

لكن.. عندما رسم داود أوغلو سياسة تركيا الخارجية "بتصفير المشاكل" كان صادقا مع نفسه، إذ أقر بأن الواقع يفرض قبول نتائج قد تحيد بعض الشيء عن المأمول، فالنظرية الموضوعة كانت متناقضة، موضوعيا، في ظل قطب أوحد فاعل يبني سيطرته على تعميق الخلافات والاستفادة منها بلعب الدور ونقيضه حتى مع الحلفاء.

لذا فإن أهم القواسم المشتركة التي تجمع محيط تركيا هي المشاكل العميقة التي خلفتها مئات السنين إيجابا وسلبا، وهو ما ترك اختلافات كبيرة في وجهات نظر دول الإقليم ومحيطه مع تركيا، فالتاريخ والجغرافيا ما زالا يلعبان دورا مهما في رسم خريطة العلاقات بين تلك الدول وتركيا، وحتى مع تلك التي تجمعها وتركيا صلات العرق تؤثر فيها ارتباطات المصالح مع أطراف لها مواقف تتباين مع تركيا.

ومن أهم الملفات التي لم تستطع تركيا تفكيك خيوطها وصولا لحل بعد، نتيجة لنظرية "تصفير المشاكل" هو الأزمة اليونانية، فحتى مع توصل الطرفين لصيغة تشاور لأعلى مستوى تمثلت في مجلس تعاون إستراتيجي يحضره رئيسا البلدين فإن الخلافات والاتهامات والتلاسن مستمر مع استمرار التحركات التي يرى فيها كل طرف أن الآخر يخل بالاتفاقيات والتعهدات وما يتم الاتفاق عليه، وهو ما جعل نظرية داود أوغلو خارج نطاق الخدمة في ملف اليونان ومن ثم الجزر المتنازع عليها مع تركيا.

ربيع تركيا الثاني

بعد أن دفعت الظروف الإقليمية تركيا إلى تجنيب نظرية "تصفير المشاكل" لا سيما بعد أن تم تجنيب صاحبها وخروجه من دائرة صناعة القرار إلى دائرة معارضيه، وذلك بعد ما رأته تركيا مخاطر جسيمة على أمنها القومي بتوسع عناصر حزب العمال الكردستاني ونقضه تعهد زعيمه أوجلان بوقف العمليات العسكرية في الداخل وعلى حدود تركيا، وظهور كيان منبثق ممثل في النسخة السورية المسمى بقوات سوريا الديمقراطية وتشكيلاتها والدعم الأميركي اللامحدود لها على الحدود الجنوبية لتركيا.

وهذا فضلا عن تحرشات اليونان وإصرارها على تسليح الجزر بمعاونة من دول إقليمية، وتدخل تلك الدول في الشأن الداخلي التركي بدعم بعض القوى المقوضة لحكم العدالة التنمية، ظهرت ذروتها في محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016، وبسبب كل ذلك اتخذت أنقرة قرار التحول عن سياسة التصفير الناعم للمشاكل، إلى الحلول الواقعية لتلك المشاكل، فاتخذت القرارات بحلول خشنة في بعض الملفات.

ومع وصول الرئيس الأميركي جو بايدن للبيت الأبيض، تحولت السياسات التركية للتوافق مع (الشرق الأوسط الجديد الذي يرسمه بايدن) وهو ما اتفق عليه أعضاء نادي الشرق الأوسط والمحيط الإقليمي لتركيا من خارج ذلك النادي الأهم دوليا، فعادت تركيا من جديد لسياسة "تصفير المشاكل".

وتوالت الزيارات وفتح السفارات مع كل الدول التي قطعت تركيا أو جمدت علاقاتها معها بعد الربيع العربي ثم بعد محاولتي الانقلاب الفاشلة في 2013 ثم 2016، ومع ذلك بقيت ملفات الضغط مفتوحة على كل الجبهات، لأن الأطراف المتصالحة تعلم في قرارة نفسها أنه الهدوء التكتيكي، الذي يلزمه أوراق لعب حين تعطى إشارته.

ولأن اليونان ورقة ضغط كما قوات سوريا الديمقراطية في الجنوب الغربي لتركيا وحزب العمال الكردستاني في الجنوب الشرقي لتركيا، فإن أميركا تريد دوما رادعا لأنقرة الطامحة على كفة الصعد.

ولعلي أتخيل أن الدولة العميقة في أميركا تعض أنامل الندم على ترك تركيا العدالة والتنمية تصعد اقتصاديا، وتتسلل عسكريا مستفيدة من معطيات جيوسياسية أو جيوإستراتيجية أو مستفيدة من ظرف تاريخي لفرض نفسها على كل طاولة القوقاز وآسيا الوسطى وعلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة البلقان وأوروبا، لذا فقد باتت تركيا فاعلا رئيسيا في كل هذه الملفات وبات ربيعها الثاني مع كل هذه الدول من اللزوم بمكان لتحافظ على مكانة تحصلت عليها بفعل الدبلوماسية والسياسة والقوة في بعض الأحيان.

لماذا تحرك اليونان أوراق ملف جزر إيجة الآن؟

الحالة الفاعلة لتركيا العدالة والتنمية، تجيب عن هذا السؤال، لماذا تحرك اليونان أوراق ملف جزر إيجة الآن؟

فتجميع تركيا لأوراق الضغط في كل الملفات المؤثرة والفاعلة فيها جعلتها تفرض كلمتها في كثير من القضايا، لا سيما أن (أردوغان قناص بدرجة رئيس دولة) استطاع أن يستفيد من كل فرصة أتيحت له من أجل جني المكاسب واصطياد الخصوم أو حتى تسجيل هدف في دول كانت ترى في نفسها آمرا على مر العقود.

فلعل الرفض القاطع لتركيا دخول كل من السويد وفنلندا لحلف "الناتو"، رغم حاجتهما الماسة لذلك، إلا بعد تسوية ملفات الجماعات المهددة لأمن تركيا، ملف يوضع في الاعتبار، لاسيما أن الغرب يقف الآن على أنامل أقدامه كاتماً أنفاسه محاولاً راجيا بعد أن كان ضاغطا لكي تقبل أنقرة دخول البلدين الاسكندنافيتين لحلف الناتو.

وحتى بعد استقبال بايدن لرئيس فنلندا ورئيسة وزراء السويد لم يحرك في تركيا شعرة، بل وأعلنت عن عملية عسكرية قد تبدأ قبل نشر هذا المقال في سوريا والعراق لتفكيك شبكة الجماعات المصنفة إرهابية عند الأتراك بالمخالفة للرغبة الأميركية الأوروبية، وهو ما أرى رد فعل الغرب عليه، أن تظهر داعش من جديد، إلا أن الأتراك مصممون.

كما أن شرق المتوسط وغازه الذي يحتاج من تركيا إلى مزيد من التروي في التعامل مع ملفه، والذي جعل تركيا تغير من سياستها وهو ما تكلمنا عنه في مقال (عندما أسكتت أنقرة أنواء شرق المتوسط) لتبطل مفعول المفخخات وتنزع فتيل القنابل حتى تتمكن من تحصيل نصيبها الذي تراه مشروعا في غاز شرق المتوسط بعد محاولات قوية ومستمرة لإقصائها، ومن ثم حرمانها من أهم مورد لتركيا إذ سيوفر لها ما يقارب ثلث ميزانيتها التي تنفق على شرائه، ما يعني مزيدا من النمو ومزيدا من التقدم ومزيدا من المشاريع الإستراتيجية وما يعني مزيدا كذلك من أوراق القوة في مقابل دول محيطها القوقازي والآسيوي والشرق أوسطي والشمال أفريقي ومنطقتي البلقان وأوروبا.

الرد التركي المحتمل ومخاوف المراقبين المشروعة

لا أستبعد أن تنفذ تركيا تهديدها على لسان وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو ببحث مسألة السيادة على الجزر المتنازع عليها في بحر إيجة، وهو ما يعني تصعيدا ستورط فيه ليس اليونان وحدها، بل أميركا وأوروبا في وقت لا تسمح فيه الظروف لمثل هذه المشاحنات.

فالموقف التركي من أزمة أوكرانيا، والذي تفهمته أميركا والغرب، على مضض، له أبعاد يمكن الاستفادة منه لوقف حالة الذعر التي يشكلها الدب الروسي والتي تستفيد منها أميركا، ولنا في ذلك مجموعة مقالات بعنوان (أوكرانيا حرب الفرص) يمكن الرجوع لها، فالدور التركي يمكن أن يخرج العالم من أزمته الحالية في ظل تقارير عن تضخم وأزمة غذاء وأزمة طاقة، وتلعب تركيا بأداء محترف مع الجميع سواء الذي يريد إطالة أمد الحرب أو من يريد إنهاءها.

لكن ذلك ليس الرد الوحيد والممكن، فالمتاح أيضا البدء بالعملية العسكرية وإحراج أميركا أمام حليفها الانفصالي شمال سوريا، ومن ثم أمام الناخب الأميركي الذي وعد بأميركا أكثر قوة فيراها أكثر تراجعا في أزمات صغيرة يمكن أن تحل بالتوافق، وهو ما أرى أردوغان فاعله.

لكن الأزمة أن تلعب أميركا مع تركيا بنفس طريقة اللعب التي لعبت بها مع روسيا في كل من سوريا وأوكرانيا، خطة الإنهاك والإرباك، والوضع في تركيا لا يتحمل، فإن كان ملف محاربة الانفصاليين ملفا يتعدى الأمن القومي، نزولاً إلى ملف انتخابي، يتناكف فيه الآن الحزب الحاكم مع أكبر أحزاب المعارضة، فإن الإخفاق فيه أو التأخر في إنجازه أو حتى زيادة كلفته من الناحية البشرية سيكون عاملا سلبيا في ذلك الوقت، لا سيما أن ما أعلن عنه من العملية العسكرية يشير إلى أن العملية ستكون ضخمة ومكلفة، ماديا وعسكريا.

كل هذه المؤشرات موضوعة لا شك أمام متخذ القرار التركي ويعلم جيدا أن أسباب فتح ملف جزر بحر إيجة الآن يندرج تحت بند الإرباك في ملفات الضغط الكثيرة في لعبة شد الحبل الذي تجيد الإدارة ليس فقط لعبه بل المشي عليه.

عن الكاتب

ياسر عبد العزيز

كاتب وباحث سياسي ومدير مركز دعم اتخاذ القرار في حزب الوسط المصري سابقا.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس