ترك برس - الأناضول

"تاريخ الدول والأمم محفوظ في دار وثائقها".. عبارة لا يعتريها أدنى ريب يشكك في مصداقيتها، نظرًا لأن وثائق الدول هي ذاكرتها التاريخية التي تربط ماضيها بحاضرها ومستقبلها، وتعتمد نشاطاتها بصورة أساسية عليها.

كما أن أرشيف الدولة يمثل ثروة ضخمة في العمل البحثي، في شتى الموضوعات كبحوث الإدارة والجيش والقضاء والسياسة والاقتصاد والدين والتراجم والأعلام والأنساب، والنواحي التجارية، وعادات المجتمعات وتقاليدها، ونحوه.

وتعد تركيا من أغنى دول العالم في مجال الوثائق، بهذا الأرشيف العثماني الضخم الذي ورثته عن الدولة العثمانية التي امتدت عبر قرون.

وتعتبر دور الوثائق العثمانية مؤسسات نموذجية في هذا الجانب، إذ أن الدولة العثمانية حافظت على ملايين الوثائق ولم تقدم على إعدامها أو التخلص منها، وحفظت جميع الوثائق الخاصة بالدولة مهما كانت درجة أهميتها.

ووفقا لدراسة أعدها المؤرخ والأكاديمي السعودي سهيل صابان بعنوان "الأرشيف العثماني مصدرا من مصادر تاريخ الجزيرة العربية"، فإن الأرشيف العثماني يعد ثاني أكبر أرشيف في العالم من حيث كمية محتوى الوثائق التي تؤرخ لمراحل الدولة العثمانية منذ المؤسس عثمان.

يقدّر عدد وثائق أرشيف رئاسة الوزراء بأكثر من 100 مليون وثيقة، لم يفهرس سوى 15% من مجموع محتوياته.

ويذكر د. مصطفى أحمد بن حموش في كتابه "فقه العمران الإسلامي من خلال الأرشيف العثماني الجزائري"، أن الجمعية التاريخية العثمانية التي تأسست عام 1908 هي أول من لفت النظر إلى الثروة الهائلة التي تضمنتها الوثائق العثمانية الرسمية.

وقد نشر رئيس الجمعية خطة أولية لنشر الوثائق وتصنيفها، ثم توالت الدراسات على الوثائق بعد الحرب العالمية الثانية على يد علماء أتراك وأجانب.

إضافة لأرشيف رئاسة الوزراء، يوجد أرشيف سراي طوب قابي، أو أرشيف السراي، بجانب أرشيف الأوقاف الذي يحتوي على وثائق وسجلات الوقفيات الخاصة بالمؤسسات الخيرية داخل البنية الاجتماعية للمجتمع العثماني.

يضاف إلى ذلك أرشيف السجلات الشرعية التي تحفظ الأحكام الصادرة عن القضاء والإجراءات التي تمت في المحاكم الشرعية.

كما لا ننسى أرشيف الطابو والمساحة الذي تُحفَظ به بعض دفاتر تحرير حركة تسجيل عقود الأملاك والعقارات والمعاملات الخاصة.

ونظرًا لأن الدولة العثمانية انضوت تحت رايتها كثير من الشعوب والأمم في قارات إفريقيا وآسيا وأوروبا، فإن أهمية الأرشيف العثماني تتجاوز كونها ثروة يعتمد عليها تاريخ تركيا وحدها.

فهو أرشيف يشارك أيضا في كتابة تاريخ العديد من الأمم والشعوب التي أصبحت الآن دولا مستقلة، خاصة الدول العربية ودول البلقان.

لوثائق الأرشيف العثماني أهمية أخرى، حيث تكشف حجم التفاعل الثقافي والتأثير المتبادل بين الدولة العثمانية والحضارة التي تمثلها، وبين ثقافة وحضارة الغرب.

كثير من الأبحاث التي اعتمدت على الأرشيف العثماني، كشفت العلاقات الدولية بين العثمانيين والدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، من معاهدات واتفاقيات وتحالفات وتبادل تجاري ونحو ذلك، وهذه الخاصية قلما تجدها في دور الأرشيف بالدول الغربية.

ويذكر المؤرخ السعودي سهيل صابان أن أقدم وثيقة في الأرشيف العثماني تتعلق بالجزيرة العربية، تعود لعام 1084هجرية، وهي خطاب باللغة العربية يتناول الحبوب والحنطة المرسلة إلى أهالي الحرمين الشريفين.

يعتبر الأرشيف العثماني موردًا حيويا للبحوث العربية سواء التي تتعلق بالدولة العثمانية أو بالدول التي ارتبطت بها.

ويشهد على ذلك توجّه الكثير من الباحثين العرب في الفترات الماضية إلى الاستفادة من وثائقه، بجانب الاستعانة بالباحثين الأتراك في أبحاثهم.

لكن رغم ذلك، لم تتحقق الاستفادة الكاملة للبحث العربي من الأرشيف العثماني، لا سيما في الأبحاث التي تتناول علاقات الدولة العثمانية بالجزيرة العربية.

لأن الدراسات في هذا الجانب ما زالت قليلة، علمًا بأن النظر في الأرشيف العثماني يضيف أبعادا جديدة على الرؤية التاريخية لأوضاع المنطقة سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا.

من أبرز الأسباب التي حالت دون استفادة الباحثين العرب من الأرشيف العثماني كما ينبغي، عدم الإلمام باللغة التركية، كما أن توتر أجواء العلاقات العربية التركية التي بدأت منذ بدايات القرن الماضي، ساهمت في هذا الغياب.

استمد كثير من الباحثين العرب معلوماتهم عن تجربة العهد العثماني من المراجع والدراسات الغربية التي لم تنصف الدولة العثمانية، وافتقرت في كثير من الأحيان إلى الموضوعية.

وفاقم هذا الافتقار غياب النظرة إلى تلك التجربة باعتبار منطلقها من قاعدة إسلامية سنية مشتركة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!