محمود علوش - الجزيرة نت

في الـ20 من يوليو/تموز الماضي، أسفر قصف دموي على منتجع سياحي في محافظة دهوك العراقية عن مقتل 8 مدنيين عراقيين في هجوم اتّهمت بغداد الجيش التركي بالمسؤولية عنه، لكنّ أنقرة سارعت إلى نفي مسؤوليتها واتّهمت حزب العمال الكردستاني بالضلوع فيه بهدف إحداث أزمة بين أنقرة وبغداد.

تشنّ تركيا منذ نحو عقدين ونصف عمليات عسكرية منتظمة ضد حزب العمال في شمال العراق، وكانت بغداد تحتج باستمرار وتعدّها انتهاكًا للسيادة العراقية، لكن التصعيد العراقي الأخير ضد أنقرة أخذ منحى أكثر حدّة من السابق، فقد طلبت بغداد الأسبوع الماضي من مجلس الأمن الدولي إصدار قرار يُلزم تركيا بسحب قواتها من العراق، وتعرّضت القنصلية التركية في الموصل لهجمات صاروخية يُرجّح أن فصائل الحشد الشعبي الموالية لإيران وراءها، كما تبنّت مليشيا مقربة من الفصائل هجومًا آخر على معسكر زليكان التركي في شمال محافظة نينوى. وليست هذه المرّة الأولى التي تتعرض فيها مقارّ وقواعد تركية للهجمات، لكنّ التوتّرات السياسية الحالية تمنح الفصائل المحسوبة على طهران قدرة أكبر على التحرّك ضد المصالح التركية.

وعلى الرغم من أن التوترات بين أنقرة وبغداد لها أسبابها المزمنة المرتبطة بالنشاط العسكري التركي، فإن الضغط الذي تُمارسه طهران على بغداد عبر حلفائها لتبنّي خطاب متشدد إزاء العمليات العسكرية التركية منح هذه التوترات بُعدًا إقليميا يتعلق بالتنافس الإيراني التركي، وذلك ما أضعف قدرة بغداد على مواصلة سياسة إدارة النزاع مع أنقرة، وهي حاجة ضرورية للبلدين في ظل تداخل مصالحهما في كثير من المجالات؛ من الأمن إلى الاقتصاد والتجارة مرورًا بالموارد المائية.

في الأمن تحديدا، لدى أنقرة وبغداد مصلحة مشتركة في إضعاف قدرة حزب العمال الكردستاني على تهديد تركيا انطلاقًا من الأراضي العراقية. ولكنّ تصاعد العمليات التركية ضد الحزب منذ انهيار عملية السلام في 2015 وامتداد الصراع إلى مناطق خارج حدود إقليم كردستان العراق وفي سوريا أيضًا منحه زخمًا أكبر وجذب إليه شبكة مُعقّدة من الفاعلين الآخرين. استطاع حزب العمال توسيع نفوذه باتجاه محافظة سنجار بعدما كان محصورًا قبل ذلك في جبال قنديل ومنطقة مخمور، كما زاد من نفوذه على وحدات حماية الشعب الكردية السورية.

وفي ضوء هذه التحولات، أضحت ديناميكية الصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني مرتبطة بصراعها الآخر مع الوحدات الكردية السورية، إذ تخشى من تحوّل سنجار إلى جسر برّي يربط مناطق سيطرة التنظيم في شمال العراق بمناطق الفصائل الكردية في شمال شرقي سوريا. وبالنّظر إلى النفوذ الواسع الذي تحظى به إيران في كلا البلدين، فإنها تنظر إلى تزايد الدور التركي على أنه يُقيد طموحاتها الجيوسياسية في البلدين.

لدى أنقرة وطهران مصلحة مشتركة في إضعاف النشاط الانفصالي الكردي في البلدين، وتخشيان أن يؤدي إلى تأجيج النزعة الانفصالية بين أكراد إيران وتركيا. وفي سوريا، تُعارض إيران مشروع الحكم الذاتي للوحدات الكردية، لكنها ترفض الوجود العسكري التركي وتعارض حاليا خطط أنقرة المتعلقة بشنّ عملية عسكرية جديدة في منطقتي تل رفعت ومنبج. وفي العراق، وقفت طهران وأنقرة معًا ضد استفتاء استقلال إقليم كردستان في عام 2017، لكنّ كلا منهما سعى لجذب فصيل كردي عراقي إلى جانبه. بنت أنقرة علاقة قوية مع حكومة أربيل والحزب الديمقراطي الكردستاني لمساعدتها في صراعها مع حزب العمال، في حين عززت طهران علاقاتها بحزب الاتحاد الوطني الكردستاني.

هذا التنافس الجيوسياسي التركي الإيراني لم يحل فقط دون قيام تعاون إستراتيجي بين البلدين في مكافحة النشاط الكردي الانفصالي في جوارهما، بل أصبح أيضًا علامة أخرى على المنافسة الإقليمية بينهما. ولطالما أبدت طهران معارضة شديدة للوجود العسكري التركي في سوريا والعراق ودفعت فصائل الحشد الشعبي إلى الدخول في شراكة مع حزب العمال في سنجار لتقييد النشاط العسكري التركي في المنطقة. وفي عام 2020 أبرمت أربيل وبغداد اتفاقًا لإخراج مقاتلي حزب العمال من سنجار، لكنّ فصائل الحشد قاومت تنفيذ الاتفاق ولا تزال تمنع القوات العراقية من الدخول إلى المحافظة.

ويعكس الصراع على سنجار في بعض جوانبه تنافسًا بين أنقرة وطهران على النفوذ في محافظة الموصل. وعلى مدى السنوات الماضية، استطاعت تركيا من خلال العلاقات القوية التي أقامتها مع حكومة أربيل والحزب الديمقراطي الكردستاني ومن خلال استثماراتها الكبيرة في الإقليم وتجارة النفط؛ استطاعت إيجاد مساحة مرنة للتحرك ضد أنشطة حزب العمال في شمال العراق، لكنّ مساعيها لتوسيع النطاق الجغرافي للصراع يجعلها أكثر عرضة للضغط من بغداد وطهران.

فضلا عن ذلك، فإن رد الفعل العراقي على هجوم دهوك يتجاوز مسألة الوجود العسكري التركي في البلاد، ويعكس امتعاض بغداد وطهران من العلاقات الوثيقة التي تُقيمها أنقرة مع أربيل لا سيما في تجارة النفط. في فبراير/شباط الماضي، وجهت المحكمة الاتحادية العليا في العراق ضربة للشراكة النفطية بين تركيا وأربيل عندما قضت بأن قانون النفط والغاز لعام 2007 غير دستوري، كما تواجه أنقرة قضية تحكيم رفعها العراق إلى محكمة دولية بشأن دور أنقرة في مساعدة حكومة إقليم كردستان على تصدير نفطها بشكل مستقل عن بغداد عبر خط أنابيب مصمم لهذا الغرض، ومن المقرر أن تُصدر المحكمة حكمها في غضون شهرين. وتُشكل هذه القضية ورقة ضغط عراقية إضافية على أنقرة لدفعها إلى أخذ مصالح بغداد وطهران بالاعتبار في صراعها مع حزب العمال الكردستاني وعلاقاتها بإقليم كردستان العراق.

وبصرف النظر عن الجهة المتورطة في الهجوم على المدنيين بمحافظة دهوك، إلا أن مسارعة بغداد إلى اتّهام أنقرة بالمسؤولية عنه، واستثمار فصائل الحشد الشعبي للحادث من أجل تأجيج الغضب الداخلي ضد تركيا يُشيران إلى دوافع عديدة تُغذي الأزمة القائمة بين البلدين. ومن غير المُرجّح أن تتأثّر إستراتيجية تركيا بالضغط الذي تُمارسه عليها بغداد وطهران، لكنّ وجودها العسكري في العراق سيُصبح أكثر عرضة للتدقيق في المرحلة المقبلة. تسعى إيران وحلفاؤها في العراق إلى تقييد النشاط العسكري التركي والضغط على أنقرة لسحب قواتها المتمركزة في معسكر "بعشيقة" شرقي الموصل، الذي يعدّ القاعدة التركية الوحيدة في العراق خارج إقليم كردستان. لم تُخفِ طهران اعتراضها مرارًا على القواعد العسكرية التركية المنتشرة في شمال العراق، وسبق أن تعرّض معسكر "بعشيقة" لهجمات عديدة من وكلاء إيران، لكنّ أنقرة ستبقى متمسكة على الأرجح بهذه القاعدة وغيرها من القواعد والنقاط العسكرية التي أنشأتها للحفاظ على زخم صراعها ضد حزب العمال.

عن الكاتب

محمود علوش

صحفي لبناني


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس