محمود حج علي - خاص ترك برس

حتى نفهم الدور التركي إقليمياً ودولياً لابد من دراسة العلاقات التركية الروسية وتاريخها. كانت العلاقات تاريخيا عدائية استمرت لمدة خمس قرون، فروسيا تعتبر نفسها روما الثالثة بعد أن أسقط العثمانيون روما الثانية، وتعاظم دورها كثيراُ مع نهايات القرن التاسع عشر، وازداد دعمها لدول البلقان التي تريد الانفصال عن الدولة العثمانية، لكن الثورة البلشفية حالت دون صدام مع تركيا

أس الصراع كان يتمحور حول أطماع روسيا في السيطرة على القرم والبحر الأسود ومضيقي البوسفور والدردنيل، واستمر الحروب لمئات السنين كانت أهما 13 حرب عظيمة، تنوعت بين غلبة للروس وغلبة للدولة العثمانية، وسنذكر باختصار أهم هذه الحروب:

الحرب الروسية العثمانية 1568-1570: والتي سميت حمل أستراهان، انتصرت روسيا فيها في مدينة أستراهان التابعة للقرم، تبعها اتفاقية سلام بين الطرفين

الحرب الروسية العثمانية 1571-1474: سميت بحريق موسكو، عندما اجتاح تتار القرم موسكو مدعوماً بقوات عثمانية، وقدر عدد قتلى الروس 80 ألف

معركة مولدي 1572": جنوب موسكو وانتصر فيها الروس رغم قلة عددهم

الحرب الروسية العثمانية "1676-1681": انتصرت فيها الدولة العثمانية وتم ترسيم الحدود بين القرم وروسيا على أساس نهر الدنيبر

الحرب الروسية العثمانية "1710-1711": وسميت معركة "بروت"، انتصر فيها العثمانيون وأسفرت عن توقيع معاهدة بروت، وذلك بعد استنجاد ملك السويد بالدولة العثمانية ضد الاجتياح الروسي، فأرسلت الدولة العثمانية جيشاً عظيماً دحر الروس وأجبرهم على توقيع الاتفاقية

الحرب الروسية العثمانية "1758-1774": كان هدفها ضم القرم لروسيا، واستطاعت الانتصار على الجيش العثماني، ووقع السلطان عبد الحميد الأول اتفاقية "كوتشوك كاينارجا" تقضي بقبول ضم روسيا لتلك المناطق

الحرب الروسية العثمانية "1828-1829": وكانت بسبب دعم روسيا لاستقلال اليونان، ولم يستطع العثمانيون الانتصار لضعف الدولة، فوقع السلطان محمود الثاني اتفاقية "أدرنة" التي تقبل باستقلال اليونان ووجود اسطول عسكري روسي على السواحل اليونانية

حرب القرم "1853-1856": دخلت فرنسا وتونس ومصر وبريطانيا لجانب الدولة العثمانية في القرم، وانتصر العثمانيون وأجبروا روسيا على توقيع اتفاقية باريس

الحرب الروسية العثمانية "1878-1877": أو ما تعرف بحرب 93 يوم. اندلعت في القوقاز والبلقان وانتصرت فيها روسيا، وكان سبب الحرب هو تصاعد التيار القومي في اليونان ورغبة رويا باسترداد إمبراطورتيها

الحرب العالمية الأولى (الحملة القوقازية) "1914-1918": كانت سلسلة معارك في منطقة القوقاز ووصلت شرق الأناضول، واستمر الجيش الروسي بالتقدم إلا أن الثورة البلشفية حالت دون استمرار التقدم الروسي، وتم توقيع معاهدة "بريست ليتوفيسك" عام 1918

مع الثورة البلشفية 1917 دخلت العلاقات حقبة جديدة، فأبرمت كل من تركيا وروسيا "معاهدة الصداقة والحياد" عام 1925، واستمر الهدوء 20 عام، حيث ألغت روسيا المعاهدة، واشترطت لعقد معاهدة جديدة مع تركيا أن تقوم الثانية بإعادة ولايتي قارص وأردهان التي تخلت روسيا عنهما بعد معاهدة الصداقة، كما طالبت روسيا بالحصول على قواعد عسكرية في مضيقي البوسفور والدردنيل، كما طالبت بتعديل اتفاقية مونترو المتعلقة بالمضائق وتحديد نظام العبور، ومعاهدة للدفاع عن البحر الأسود، لكن دخول تركيا ضمن حلف الناتو والدعم الأمريكي حال دون تحقيق روسيا لمطالبها، واستمر الحال على ما هو عليه حتى انهيار الاتحاد السوفييتي، تخللها تهديدات كان أهمها الأزمة السورية التركية عام 1957 ودخول روسيا على الخط بقوة.

مع بداية روسيا الاتحادية كانت تركيا من أولى الدول التي اعترفت بروسيا الجديدة، لكن العلاقة ما زال يساورها القلق وعدم الثقة، فقررت حكومة البلدين (تركيا سليمان ديميريل وروسيا يلسن)، توقيع معاهدة تحدد العلاقات بين البلدين وتنبئ بصفحة جديدة بين البلدين رغم أن المعاهدة كانت قائمة على احترام السيادة والمساواة والندية وغيرها من البنود، إلا أن الدعم الغربي خاصة الأمريكي لتركيا كان محط قلق لدى الروس، لذلك كان لابد لتركيا من تعزيز وجودها الحديقة الخلفية والحامل الثقافي والقومي، وهم بلاد القوقاز وآسيا الصغرى فشرعت تركيا بإنشاء مؤسسة "تيكا" ومؤسسة "تورك صوري"، كما أنشأت عام 1992 تجمع الدول الناطقة بالتركية، والذي تحول لاحقاً لمجلس تعاون الدول الناطقة بالتركية، ووسعت نشاطها الاقتصادي ليصل معظم اسيا الصغرى ودول القوقاز.

عسكريا انعكست الحرب بين أذربيجان وأرمينيا 1999 على العلاقات بين الطرفين باعتبار كل طرف حليف طرف في الصراع، وكان دخول حلف الناتو لوقف النزاع في الجانب اليوغسلافي ضد روسيا أحد أهم عوامل عدم استقرار العلاقات بين الطرفين، فتركيا دعمت أذربيجان ودعمت ورفضت التدخل الروسي في البوسنة، ازداد هذا مع فرض تركيا لقيود على حركة السفن القادمة من روسيا وعبورها عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، فرفعت روسيا مذكرة احتجاج لدى الأمم المتحدة، لكن الدعم الغربي لتركيا حال دون تحقيق روسيا مطالبها.

كانت القضية الشيشانية والكردية إحدى أهم محفزات التوتر بين البلدين، عندما ارتكبت روسيا مجازر في بين القوات الشيشانية راح ضحيتها مدنيون كثر، فرفض البرلمان التركي روسيا، وخرجت مظاهرات في عموم تركيا دعماً للشيشان، فاتهمت روسيا تركيا بفسح المجال لدعم انفصال الشيشان. ردت تركيا باتهام روسيا بدعم المنظمات الكردية والتي ترتبط بحزب العمال الكردستاني، واتهمت روسيا بفتح البيت الكردي، والسماح للأكراد بإقامة تدريبات عسكرية كردية على الأراضي الروسية، فردت روسيا أنها تدرك ما تفعل ولا وصاية لأحد عليها. والحقيقة أن روسيا وظّفت الورقة الكردية لصالحها، فهي أيضاً باعت تركيا أسلحة في منتصف التسعينيات لمحاربة الأكراد حين امتنع الغرب عن تزويد تركيا بالسلاح.

في عام 1997 نشرت قبرص اليونان صواريخ سام الروسية، فاتهمت تركيا روسيا بإحداث خلل في التوازن العسكري في البحر المتوسط، رفضت روسيا هذه التصريحات، ولكن رغبتها في تخفيف الصراع عرضت على تركيا الانسحاب من قبرص الشمالية مقابل الغاء صفقة الصواريخ، لكن تركيا رفضت. تعنتت روسيا أكثر فقامت بتهديد تركيا أن أي اعتداء تركي على حاملة منظومة الأسلحة سيشعل حرباً اقليمياً، فدخلت أمريكا لوقف الحرب المحتملة، ونشرت اليونان الصواريخ في جزيرة كريت بدل قبرص، وكانت الأزمة القبرصية ضمن التنافس التركي الروسي في اسيا الصغرى والقوقاز والبلقان

إحدى أهم القضايا أيضاً كانت موافقة مجلس الدوما على منح اوجلان اللجوء السياسي في روسيا، فهددت تركيا بتعليق كل المشاريع مع روسيا، خصوصاً أن تركيا اتهمت روسيا بالتعاون من الاستخبارات البريطانية بنقل اوجلان من إيطاليا لروسيا، فصمتت تركيا، لكن الأزمة لم تنته حتى قبضت تركيا على أوجلان ورغم الخلافات الكبيرة إلا أن العلاقات لم تصل حد القطيعة، وكان بين المد والجزر دعمتها السياسة البراغماتية الروسية في العلاقة مع تركيا. وصل بوتين سدة الحكم عام 2000 وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ البلدين.

تاريخ العلاقات التركية الروسية، منذ وصول أردوغان ووصول بوتين أيضاً للسلطة وحتى 2012

شكل وصول حزب العدالة حدث تاريخي كأول حزب إسلامي يستطيع تشكيل حكومة بمفرده، فوضع الحزب وقتها 6 مبادئ لإدارة العلاقات الخارجية أهمها:

- مبدأ التوازن السليم بين الحرية والأمن

- مبدأ تصفير المشاكل

- مبدأ السياسة الخارجية المتعددة الأبعاد وغيرها من المبادئ

وبدأت الماكينة السياسية بزيارة أردوغان لروسيا عام 2002 وأكيد وقوف تركيا لجانب روسيا في محاربة الإرهاب، كما أعلن بوتين رضاه عن العلاقات بين البلدين، لكن خوف روسيا لم تقف هنا فهي ترى دولة في طور التحديث تتجه نحو الاستقلالية السياسية. فزاد التعاون التجاري بين البلدين، ولكن ليس بالحد المطلوب، لأن المنتجات التركية وقتها منخفضة الجودة، فاتجهت روسيا للصين وبولندا لتدني الأسعار مقارنة بالتركية، بالإضافة لاتفاقية الصداقة الأوروبية الروسية أثرت على التصدير التركي لروسيا.

مع بداية 2004 أرادت تركيا تطوير العلاقات أكثر، فقام عبد الله غول وزير الخارجية وقتها بزيارة لروسيا، بصحبة أكثر من 150 رجل أعمال تركي والتقى ايفانوف وتم توقيع العديد من الاتفاقيات التجارية والأمنية والسياسية، كما زار بوتين تركيا في نفس العام أيضاً، وفي هذه الأثناء طلب بوتين من تركيا انهاء النشاط الشيشاني في تركياـ وفي المقابل طلبت تركيا وقف الدعم الروسي لحزب العمال الكردستاني، وخلالها وقع بوتين 6 اتفاقيات تنوعت بين الاقتصادية والأمنية والبحرية، وكانت الاتفاقيات تحت مسمى "تعميق الصداقة والشراكة المتعددة الأبعاد". هذه الاتفاقيات عمقت العلاقة أكثر بين بوتين وأردوغان الذي زار روسيا 2005 مصطحباً معه 600 رجل أعمال، وتمت مناقشة العديد من القضايا منها إقليم كاراباغ حرب العراق، فيما بعد أيدت روسيا دخول تركيا للاتحاد الأوروبي، كما دعت تركيا روسيا للانضمام لمنظمة المؤتمر الإسلامي كدولة مراقبة.

تطورت العلاقات أكثر في عام 2007 حيث استمرت الزيارات المتبادلة بين الطرفين، وحضر بوتين قمة منظمة التعاون الاقتصادي في إسطنبول، واتسعت لتشمل زيارات متبادلة بين رئيس مجلس النواب التركي وبين رئيس مجلس الدوما، جرت خلالها الكثير من الاتفاقيات الاقتصادية وقضايا إقليمية ودولية. في أثناء هذه الفترة حصل ما سمي بالثورتين الملونتين في جورجيا وأوكرانيا، وانضمت رومانيا وبلغاريا لحلف الناتو، الأمر الذي أثار قلق روسيا وتركيا، فالبلدين متفقين على عدم احداث تغيير جيوسياسي في البحر الأسود، كما أنه لا حاجة لتوسيع الناتو أكثر.

على الرغم من الاتفاق الظاهري إلا أن ملفات كثيرة ما زالت عالقة لم تحل، فروسيا لم تقطع علاقاتها ودعمها لحزب العمال الكردستاني رغم الطلب التركي، وتركيا أيضاً قدمت دعم عسكري لجورجيا ما أغضب الروس، كما أنها بنت أكاديميات عسكرية في باكو، كما أن مجلس الدوما صدق على قانون يعتبر العثمانيين مسؤولين عن "إبادة الأرمن"، وأبدت تركيا رفضها، فرفضت تركيا دخول روسيا كدولة مراقبة في منتدى "دول الأعمال التركي"، وأيضا أيدت تركيا استقلال الألبان الأمر الذي انتقدته روسيا. وأيضا في ملفات الخلاف، صوتت تركيا لجعل أمريكا دولة مراقبة في منظمة التعاون الاقتصادي للبحر الأسود، بينما امتنعت روسيا عن التصويت، كما قامت روسيا بتوقيع اتفاقيات مع اليونان وبلغاريا لتمرير الغاز متجاهلة بذلك المصالح الروسية.

استمرت العلاقات والخلافات الثنائية بين البلدين في المرحلة التالية ما بين 2008-2012 لكن ثمة نقاط مختلفة كانت محل خلاف بين الطرفين، فكانت المسألة السورية أهم النقاط المتباينة تماماً بين الطرفين طبقاً لسياسية كل دولة منهما بالإضافة للرؤية الاستراتيجية لكل بلد. دعت تركيا بشار لمشاركة السلطة، لكنه رفض فدعت تركيا لتنحية الأسد، ودعت لدعم المعارضة سياسياً وعسكرياً، واعترفت بالمجلس الوطني ممثلاُ شرعيا، واستضافت تركيا مؤتمر "أصدقاء سوريا"، وقدمت كل أنواع الدعم اللوجستي للجيش الحر، أما روسيا فدعمت السلطة الحاكمة في سوريا دعماُ كاملاً واعترضت على أي قرار يدين الأسد، لأنها تعتبر انهاء الأسد هو انهاء لوجودها في البحر المتوسط، وهو بنفس الوقت تدخل أمريكي في دولة حليفة لروسيا في الشرق الأوسط. أعلنت تركيا رفضها للسياسة الروسية في سوريا، كما انتقدت روسيا تركيا لدعمها العسكري واللوجستي للمعارضة، ورفضت مؤتمر "أصدقاء سوريا"، كما استمرت الاتهامات المتبادلة، بين دعم المعارضة ودعم نظام الأسد.

 رغم الخلاف بين الطرفين إلى أن العديد من المصالح المشتركة كانت حاضرة ومانعة لتطور الخلاف، فتركيا تسعى لأن تكون ممر الطاقة من روسيا وآسيا الصغرى لأوروبا، كما أن روسيا تعتبر تركيا جسراً لها للوصول على الشرق الأوسط ويمكن القول "سياسياُ" أن العقلانية والواقعية فرضت على البلدين تجاهل وتأجيل الخلافات بينمها لما بين البلدين من مصالح مشتركة كبيرة، ولكن هذا لم يمنع من استمرار الخلاف بينهم وكانت احداها نشر رادار مالطيا الذي يصل مداه 2000 كم. المجال لا يتسع لشرح كل ملفات الخلاف لكن أهم النقاط تتركز في الملف الأفغاني والإيراني، وتفتيش الطائرة السورية العائدة من موسكو، والطلب التركي نشر صواريخ باتريوت في الجنوب التركي وغيرها. كل هذه الأحداث كانت حتى تاريخ 2012م.

عن الكاتب

محمود حج علي

كاتب سوري ومدرب موارد بشرية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس