ترك برس

تواصل تركيا مساعيها لمكافحة آثار الزلزال المدمر الذي ضرب جنوبي البلاد مطلع فبراير/ شباط الماضي، وضمن هذه المساعي إحياء ما دمرته الكارثة من التراث الثقافي، وذلك وفق خطة معينة أعلنتها الحكومة. 

وطال آثار زلزال التركي كنوز التراث الثقافي أيضاً، وبجانب تضميد الجراح الناتجة عن "كارثة القرن"، تهتمّ تركيا بترميم وإنقاذ آثارها الثقافية.

بأعيُن مفتوحة على آخرها، شهد التمثال النصفي للملك الحيثي سوبيلوليوما زلزالاً بقوة 7.7 درجة ضرب جنوبيّ تركيا. وبينما كانت الأرض ترتجف من تحته، وقف التمثال الذي يبلغ عمره 3000 عام ثابتاً على قاعدته في متحف هاطاي للآثار، بحسب تقرير لـ" TRT عربي."

هناك في الخارج، وعلى امتداد 11 محافظة تركية، وفي سوريا المجاورة، تداعى العالم، فقد تحولت البلدات والمدن إلى أنقاض جرَّاء الزلزالين المتتاليين اللذين وقعا في 6 فبراير/شباط. لقد نجا التمثال من الزلزالين، لكنّ عديداً من القطع الأثرية والآثار الأخرى ذات الأهمية التاريخية والأثرية تضررت بنسب متفاوتة.

وفور انقشاع الغبار عن المنطقة المنكوبة، بدأ الخبراء تقييم الخسائر، والشروع في ترميم القطع الأثرية والآثار المتضررة.

قال يحيى جوشكون من المديرية العامة للتراث الثقافي والمتاحف في تركيا، لـTRT World: "المنطقة المتضررة من الزلازل هي موطن لمناطق تحظى بأهمية استثنائية، إذ تُعتبر مأهولة بالسكان منذ العصر الحجري القديم".

يشير هذا الكلام إلى أن تاريخ البشرية في المنطقة يعود إلى 10,000 سنة قبل الميلاد، مما يجعلها موطناً لحضارات متنوعة ومواقع تاريخية وتراكم ثقافي كبير جدّاً.

كان أول مسجد معروف في الأناضول، وهو مسجد حبيب النجار الذي يبلغ عمره أربعة عشرة قرناً، من بين المعالم التي لا يمكن تعويضها، إذ تَعرَّض لأضرار جسمية. يقع المسجد في مدينة أنطاكيا التابعة لمقاطعة هاطاي (موطن عديد من الثقافات والأديان) التي تُعتبر من القاطعات التي تضررت بشدة بفعل الزلزال. لقد انهارت قبة المسجد ومئذنته وبعض جدرانه التاريخية.

لكن جوشكن يعتقد أن "الأضرار ليست عصيَّة على الترميم"، ويضيف أن معظم القطع الأثرية في المتاحف والمواقع الأثرية لم يتضرَّر بعد الزلازل، بما في ذلك مواقع التراث العالمي لليونسكو.

لقد صمد موقع غوبكلي تبه في شانلي أورفا التي ضربها الزلزال بشدة، ويُعَدّ هذا الموقع الأقدم من نوعه في العالم إذ يعود تاريخه إلى العصر الحجري الحديث. كما صمدت تماثيل جبل النمرود في أدي يامان، وهي مجموعة تماثيل هلينستية ضخمة تعود إلى الملك أنطيوخوس الأول ثيوس ملك كوماجين والآلهة القديمة إلى جانب زوجين من الأسود وآخرَين من النسور.

في حين تعرضت قلعة ديار بكر، المعروفة باحتوائها على ثاني أطول وأوسع الجدران الدفاعية في العالم والتي تأتي ثانيةً بعد سور الصين العظيم، وكذلك تلال أرسلانتيب في ملاطية -حيث نُقّب عن السيوف الأولى التي صُنعت في العالم- لأضرار طفيفة.

وحسب جوشكون، تَعرَّض بعض المتاحف الـ29 في المنطقة المتضررة من الزلزال لأضرار مادية، لكنه أكد أن أيّاً منها لم يتعرض للانهيار، في حين أن القطع الأثرية في حالة جيدة.

على صعيد متصل، تعرض متحف هاطاي للآثار، الذي يستضيف أكبر معرض للفسيفساء في العالم، لأضرار جزئية. ومنذ الكارثة رُكّبَت كاميرات تعمل بالطاقة الشمسية ونُشر أفراد الأمن لمنع أي نوع من السرقات المحتملة.

لم تتسبب الهزات الارتدادية، التي استمرت على مدار الأيام التي تلت الزلزال المدمر، في إلحاق أضرار إضافية بالقطع الأثرية بالمتحف منذ أن اتخذت السلطات التركية "الإجراءات اللازمة في الأيام الأولى"، كما يقول جوشكن. ويضيف: "في معظم المتاحف تم أُخرجَت القطع الأثرية على الفور من صالات العرض لتغليفها وتخزينها أو نقلها إلى متاحف أخرى".

استجابة سريعة

نُشرَت فرق من وزارة الثقافة التركية في المنطقة فور وقوع الزلزال لبدء عمل تقييمات شاملة للأضرار وتأمين القطع الأثرية وسط استمرار الهزات الارتدادية.

يقول جوشكن: "كان أصدقاؤنا العاملون في المنطقة في مواقع الخدمة منذ اللحظة الأولى. هُرع كثيرون إلى متاحفهم قبل التحقق من منازلهم".

ومن وزير الثقافة إلى الإدارات وموظفي الأمن، كان موظفو الوزارة من جميع أنحاء تركيا يعملون على الأرض بالتناوب.

ووفقاً لجوشكن فإن أكثر من 500 خبير من مختلف المجالات موجودون حالياً على الأرض، ولا تزال جهود تقييم الأضرار جارية على قدم وساق، على الرغم من اكتمال العمليات الأولية في نهاية الأسبوع الأول بعد الزلازل.

كما يُنشأ مجلس علمي ولجنة استشارية لإعادة تقييم وترميم التراث الثقافي المسجَّل، لا سيما في أنطاكيا، وهي واحدة من أكثر المناطق التريكة ثراءً ثقافيّاً، لتاريخها العريق الممتدّ منذ القترة الهلينستية القديمة.

يضيف جوشكن: "هدفنا إعادة بناء كل نصب مدمَّر وإصلاح الآثار المتضررة بتوجيه من اللجنة العلمية".

ومن المتوقع أن تتكون اللجنة من أكاديميين وعلماء من جامعات وتخصصات مختلفة وممثلين عن منظمات وطنية ودولية.

خبرة واسعة

وقد أثرت الزلازل في حياة أكثر من 13.5 مليون شخص في تركيا، إذ بلغت المساحة التي ضربتها الزلازل ما يقرب من 99,362 كيلومتراً مربعاً، وهي مساحة أكبر من عديد من البلدان كالمجر والبرتغال والنمسا.

وأُطلِقَ على الكارثة منذ اليوم الأول للزلازل اسم "كارثة القرن". عندما ننظر إلى الأمر "فإن ما نمرّ به هو إحدى أكبر الكوارث التي شهدناها منذ ما يقرب من ألفَي عام" حسب قول جوشكن.

تقع تركيا عند تقاطع الصفائح التكتونية الأوراسية والإفريقية والعربية، وهي من أكثر المناطق نشاطاً في العالم من الناحية الزلزالية.

يقول جوشكن: "لأن علم المتاحف التركي يواجه كوارث طبيعية منذ سنوات عديدة، فإن الخبرة التي اكتسبها تُعَدّ واسعة جدّاً"، مؤكداً أن التراث الثقافي للبلاد لم يتكبد خسائر كبيرة في الكوارث السابقة أيضاً.

كان معظم الاحتياطات اللازمة للكوارث قيد التنفيذ بالفعل قبل سنوات من زلزال 6 فبراير/شباط، ولم يُدرَج سوى بعض العمليات الأخرى بعد وقوع الزلازل الأخيرة.

ويؤكد جوشكن أنه "إلى جانب ذلك لدينا عمال ترميم ذوو خبرة ومهرة للغاية. تُعالَج القطع الأثرية المتضررة لدينا بأفضل طريقة ممكنة".

الاستعداد للزيارة

ركزت التدابير التي اتُّخذت إثر الزلازل على تجديد المتاحف. في العقدين الماضيين جُدّدَت 163 متحفاً تابعاً لوزارة الثقافة والسياحة، تضمّ مستودعات مجهَّزة بأنظمة ذكية مقاومة للكوارث.

كما استُخدمَت المثبتات لقواعد المصنوعات اليدوية لمنعها من الاهتزاز والتسبب بالتالي في سقوط القطع الأثرية عند حدوث زلزال. في حالات أخرى استُخدم الشمع لتثبيت القطع الأثرية التي لم تصلح لها المثبتات.

بدأ العمل على هذه التدابير منذ سنوات عديدة، ويضيف جوشكن: "وسيُعوَّض أي وجه قصور بسرعة. كما جُدّدَت المباني القديمة وقُوّيَت".

بالإضافة إلى هذه التدابير، حدّثَت وزارة الثقافة خطة عمل طوارئ الكوارث عام 2021، ووضعت خطوات عملية مثل الوصول إلى المتاحف بسرعة، وإرساء الأمن، وإجراء تقييمات للأضرار.

وتستمر خطة عمل تقييم الأضرار في مواقع التراث العالمي والمواقع الأثرية والحفريات والأصول الثقافية المسجلة.

يقول جوشكن إنه في أعقاب زلزال 6 فبراير/شباط، نفّذت المديرية العامة عملياتها على وجه السرعة وفق خطة العمل الطارئة، وتَكلَّل تنفيذ الخطة بالنجاح".

وبعد أسبوعين من الزلازل، اكتملت جهود التنظيف والترميم في متحف ديار بكر ومتحف سانليورفا الأثري. عديد من المتاحف الأخرى جاهز حاليّاً لإعادة فتح أبوابه أمام الزوار.

يستدرك تجوسكن: "مع ذلك، بسبب الأجواء غير المريحة في المنطقة، فضلاً عن تداعيات الزلزال المستمرة، قدّرنا الحاجة إلى مزيد من الوقت لإعادة فتح هذه المتاحف أمام الزوار".

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!