د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

قال تعالى: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الآنفال: 42] .

هذه الآية الكريمة توضِّح الأماكن في غزوة بدرٍ، وصوَّر لنا - سبحانه وتعالى - الحالة التي كان عليها الجيشان يوم اللقاء، فقد كان المسلمون بجانب الوادي وحافته الأقرب إلى المدينة، وكانت أرضه رخوةً، تغوص فيها الأقدام، ولم يكن هناك ماءٌ، وكان الكفَّار بالجانب الآخر من الوادي - الأبعد من المدينة - وكانت أرضه ثابتةً، وكان فيها ماءٌ، وكان ركب العير الَّذي يقوده أبو سفيان بالقرب من ساحل البحر

فقد ذكَّر المولى - عزَّ وجلَّ - المؤمنين بنعمته عليهم، قال: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا﴾ أي: اذكروا أيها المؤمنون وقت أن خرجتم من المدينة، فسرتم حتَّى كنتم أي: بجانب ﴿بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا﴾، وحافَّته الأقرب إلى المدينة المنوَّرة أي: والكفار بالجانب الأبعد الأقصى ﴿وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى﴾ الَّذي هو بعيد بالنِّسبة للمدينة - أي: وعِيرُ ﴿وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ سفيان ومن فيها كانت أسفل منكم من ناحية ساحل البحر الأحمر على بُعْدِ ثلاثة أميالٍ منكم.

وفي الآية تصوير ما دبَّر - سبحانه - من أمر غزوة بدرٍ؛ ليقضي أمراً كان مفعولاً؛ من إعزاز دينه، وإعلاء كلمته، حين وعد المسلمين إحدى الطَّائفتين؛ مبهمةً غير مبينةٍ، حتَّى خرجوا؛ ليأخذوا العير راغبين في الخروج، وأقلق قريشاً ما بلغهم من تعرُّض المسلمين لأموالهم، فنفروا؛ ليمنعوا عِيرَهم، وسبَّب الأسباب حتَّى أناخ هؤلاء بالعدوة الدُّنيا، وهؤلاء بالعدوة القصوى، وراءهم العير يحامون عليها، حتى قامت الحرب على ساقٍ، وكان ما كان.(آل عابد، 1994، 15/173)

وقوله تعالى: بيان لتدبير الله ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً﴾، وإرادته النافذة؛ أي: ولو تواعدتم أنتم وهم على التلاقي للقتال هناك؛ لاختلفتم في الميعاد؛ لكرآه تكم للحرب على قلَّتكم، وعدم إعدادكم شيئاً من العدَّة لها، وانحصار همِّكم في أخذ العير، ولأنَّ غرض الأكثرين منهم كان إنقاذ العير دون القتال أيضاً؛ لأنَّهم كانوا يهابون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يأمنون نصر الله له؛ لأنَّ كفر أكثرهم به كان عناداً، أو استكباراً، لا اعتقاداً أي: ولكن تلاقيتم هنالك على غير ﴿وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً﴾، ولا رغبة في القتال؛ ليقضي الله أمراً كان ثابتاً في علمه، وحكمته: أنَّه واقعٌ لابدَّ منه، وهو القتال المفضي إلى خزيهم، ونصركم عليهم، وإظهار دينه، وصدق وعده لرسوله صلى الله عليه وسلم كما تقدَّم.(الزمخشري، 1967، 2/160)

وقوله تعالى: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾

قال الالوسي: أي: ليموت من يموت عن حجَّةٍ عاينها، ويعيش من يعيش عن حجَّةٍ شاهدها، فلا يبقى محلٌّ لتعليلٍ بالأعداد؛ فإنَّ وقعة بدرٍ من الآيات الواضحة، والحجج الغُرِّ المحجَّلة.(الطبري، 1980، 10/11)

وقوله: تذييلٌ قُصِدَ به التَّرغيب في ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾، والتَّرهيب من الكفر، أي: لا يخفى عليه شيءٌ من أقوال أهل الإيمان، عليمٌ بما تنطوي عليه قلوبهم، وضمائرهم - وسيجازي - سبحانه - كلَّ إنسانٍ بما يستحقُّه مِنْ ثوابٍ، أو عقابٍ على حسب ما يعلم، وما يسمع عنه.(الألوسي، 10/7)


مراجع البحث:

علي محمد الصلابي، السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، 1425ه/2004م، صص 642-644

أبو القاسم محمود الزمخشري، تفسير الزمخشري المسمَّى بالكشَّاف، دار المعرفة، بيروت، 1386ه 1967 م.

أبو جعفر محمَّد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك المسمى تاريخ الطَّبري، تحقيق محمَّد أبو الفضل إبراهيم، دار سويدان - بيروت.1400ه1980م.

محمود الالوسي البغدادي، تفسير الالوسي، المسمَّى روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسَّبع المثاني، للالوسي إدارة الطِّباعة المصطفائية بالهند، بدون ذكر سنة الطَّبع.

محمَّد بكر ال عابد، حديث القرآن عن غزوات الرَّسول(ﷺ)،  دار الغرب الإسلاميِّ، الطَّبعة الأولى.1414ه-1994م.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس