د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا

وُصفت جولة الحوار في موسكو بأنها كانت "إيجابية وبناءة"، وأن الأطراف اتفقت على متابعة الاتصالات الرفيعة المستوى. وأن الملفات نوقشت بشكل موضوعي وصريح. لا حديث عن شروط وشروط مضادة بل عن "الفرص السانحة للعمل المشترك" وعن تكليف نواب وزراء الخارجية بإعداد خريطة طريق للنهوض بالعلاقات التركية السورية وعن تسهيل ضمان عودة السوريين إلى وطنهم الأم "بشكل طوعي وآمن ومشرف". مع إبداء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف رغبة روسيا في دعم إعادة علاقات حسن الجوار بسرعة بين تركيا ونظام بشار الأسد على أساس "المنفعة المتساوية والمتبادلة".

يواصل قطار أنقرة السريع تحركه باتجاه التطبيع مع نظام بشار الأسد. عقْدُ قمة رباعية في موسكو على مستوى وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران والنظام في دمشق، خلال وضع تركيا اللمسات الأخيرة على أهم استحقاق انتخابي رئاسي وبرلماني في البلاد، يعكس مدى رغبة الأطراف الأربعة بتسجيل اختراق سياسي ما في الملف السوري بغض النظر عن الظروف والأجواء المحيطة كما يبدو.

مر لقاء الطاولة الرباعية الأخير في موسكو حول الملف السوري مرور الكرام في الداخل التركي. لقاء من هذا النوع بين مولود جاويش أوغلو ووزير خارجية النظام فيصل المقداد كان سيتحول إلى سجال سياسي وحزبي داخلي بين الحكم والمعارضة لكن شيئا من هذا القبيل لم يحدث. "صفر مقالة" أو تحليل حول ما جرى في العاصمة الروسية رغم مرور يومين على الاجتماع ورغم أهمية الحدث وارتداداته السياسية على الداخل التركي. الأنظار كلها مشدودة نحو العملية الانتخابية والصناديق ولحظة إعلان النتائج.

ما هي المسألة الأساسية التي تريد أنقرة معالجتها في ملف الأزمة السورية اليوم؟ مسار ومصير العلاقة مع النظام أم تحريك الحلول السياسية في المشهد السوري؟ أم الاكتفاء بالحصول على ضمانات أمنية وسياسية من قبل موسكو وطهران بأن بشار الأسد سيحترم خطوة عودة آلاف اللاجئين إلى سوريا دون تعريضهم لأخطار أمنية وسياسية ومعيشية؟ وأين ستكون مصلحة أنقرة ولماذا لن يكون من حقها مراجعة سياستها السورية حيث الكثير من العواصم العربية تناقش استقبال الأسد في القمة المرتقبة، خصوصا من كان منهم شريكا لتركيا في تنسيق السياسات والمواقف حيال النظام والوضع السوري؟ ولماذا تطالب أنقرة بإعلان تمسكها بالقرارات الأممية الصادرة حول الأزمة في سوريا وعلى رأسها القرار 2254 الذي تحول إلى حبة "معلك بيعلك -علكة-" مطاط، يلون لسانك وشفتيك بالأحمر المخجل. في حين تواصل واشنطن رغم كل الاعتراضات التركية تبنّي ما تقوله وتريده مجموعات "قسد"، وتدافع عنها تحت ذريعة محاربة داعش دون خجل؟

كنا نستقوي بالقرارات الأممية لمواجهة النظام في دمشق فأصبحنا نراهن على قرار أميركي قريب يتخذ ضد الدول المطبعة مع الأسد عله يردعها ويحول دون استمرارية هذا الانفتاح والغزل. لكن الحقيقة هي أن واشنطن لا تصعد ضد النظام بقدر ما تصعد ضد المطبعين.

يقدر البعض عدد الوافدين إلى تركيا خلال 12 عاما كلاجئين أو طالبين للحماية المؤقتة أو باحثين عن تحويل الأراضي التركية إلى محطة ترانزيت نحو العواصم الأوروبية، بأحد عشر مليون شخص. إذا كانت هذه الأرقام صحيحة، فهذا يشكل نحو  13 بالمئة من مجموع سكان البلاد، وما يواكبه من أعباء والتزامات سياسية وأمنية واجتماعية واقتصادية على الداخل التركي. هذا يكفي لنتعرف أكثر إلى أهمية ملف اللجوء بالنسبة للداخل التركي.

وجدت تركيا نفسها تدفع ثمن سياستها الإقليمية في دعم حراك الربيع العربي والثورات في المنطقة بعدما راهنت على تحول سريع في هذه الدول يعطيها المزيد من النفوذ والثقل الاستراتيجي في المنطقة. الحالة السورية كانت على رأس سياسات أنقرة الإقليمية بعدما نسقت مع عواصم عربية وغربية تريد التخلص من بشار الأسد. تحولت المسألة من دعم الثوار لإسقاط نظام جاهز للسقوط في كل لحظة، إلى مسألة مئات الآلاف من اللاجئين السوريين داخل الأراضي التركية وتوازنات أمنية وسياسية معقدة على الحدود التركية السورية، ومواجهات نفوذ وهيمنة بين اللاعبين الإقليميين أجلست الأسد ونظامه في قلب المشهد.

الأهم من ذلك هو ما يدور من أحاديث في موسكو وطهران حول ولادة مسار جديد في العلاقة بين أنقرة والنظام في دمشق تواكبه خريطة طريق عملية "تنفيذية" تحطم الحواجز والعوائق وتسرع المصالحة والتطبيع. لماذا تفعل قيادات حزب العدالة والتنمية ذلك وهي في الطريق لانتخابات مصيرية منفتحة على أكثر من احتمال؟ هل تعد نفسها للبداية السياسية الجديدة مع دمشق؟ أم أن خيارات الجميع في تركيا حكما ومعارضة باتت موحدة أمام مسار لا بديل له في التعامل مع الملف السوري؟

عندما نتحدث عن الطاولة الرباعية في موسكو علينا أخذ هذا الواقع بعين الاعتبار أيضا: تركيا تتعامل مع الملف السوري بنظارات سياسية وأمنية واجتماعية مغايرة للنظارات التي كانت تضعها عام 2011. العدالة والتنمية سيلتزم بذلك. والمعارضة لن تهادن بعد الكثير من الوعود التي أطلقتها للناخب التركي. نحن نعرف مع من وكيف سيفعل أردوغان ذلك. المشكلة هي كيف سيتصرف كليتشدار أوغلو للوصول إلى ما يريد ومع من سيتعاون وينسق؟ مع موسكو أم مع واشنطن؟

طالما أن الحديث يدور حول المنافع المتساوية والمتبادلة فمن حقنا القول إن قوى المعارضة السورية تملك هي الأخرى حق مطالبة كثيرين بالإجابة على أسئلة كثيرة صعبة ومعقدة وهو ما قد يقوي موقفها حول المسار والمستقبل في سوريا: كيف ستنتهي مسألة الوجود العسكري الأجنبي فوق الأراضي السورية؟ ومن الذي سيعيد إعمار ما تهدم من مدن وقرى؟ ومن سيكون الضامن باتجاه الحل السياسي؟ هي مع حزب العدالة والتنمية قد تكون تملك كثيرا من الأجوبة على هذه التساؤلات بحكم التجارب. لكننا لا نعرف كيف سيكون شكل ذلك في حال فوز تكتل المعارضة. وهل بدأت الاستعداد لاحتمال من هذا النوع أم أنها ستحيل الأمر على وسطاء إقليميين يدخلون على الخط للتعامل مع واقع جديد قد يحدث؟ وهل سيكفيها التواصل مع عواصم عربية وغربية للبحث عن خيارات وبدائل تعني تركيا وروسيا وسوريا وإيران؟ وهل سيكون بمقدور هذه العواصم إعطاء قوى المعارضة السورية ما تريد وهي التي تتبنى اليوم سياسة انفتاحية على النظام؟

مولود جاويش اوغلو لن يكون على رأس الدبلوماسية التركية بعد أيام فمن سيخلفه ويتولى إدارة الملف السوري في حال فوز حزب العدالة والتنمية؟ وكيف سيكون شكل العلاقات التركية الروسية في التعامل مع الملف السوري في حال فوز المعارضة التركية؟ وهل تواصل المعارضة نهج وأسلوب حزب العدالة أم ستسرع المسار السياسي في التقارب مع دمشق بدعم وتشجيع بعض العواصم الإقليمية والغربية؟ الحديث عن تسهيل عودة اللاجئين بالنسبة للمعارضة التركية يعني إبقاء أبواب الحوار مشرعة مع موسكو وطهران. لكن كليتشدار أوغلو يتحدث باستمرار عن إعادة العلاقات مع الغرب إلى سابق عهدها فكيف سيتحقق ذلك في الملف السوري؟ ساعات فقط وتساعدنا الصناديق التركية في معرفة إذا كانت مثل هذه الأسئلة ستطرح ومن الذي سيجيب عليها.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس