ترك برس

أشار مقال تحليلي للكاتب والخبير الاقتصادي ممدوح الولي، إلى اهتمام ملايين المسلمين بالانتخابات التركية، وازدياد مخاوفهم من دور الدول الغربية بها ودور الإعلام الغربي المناهض للرئيس التركي رجب طيب أردوغان وإصراره على ربطه بالدكتاتورية.

وجاء في المقال الذي نشرته شبكة الجزيرة القطرية:

قبل مئة عام، غيّر الجيش التركي الهوية التركية الإسلامية إلى العلمانية، وألغى دولة الخلافة، وخلال العقود الماضية كلما حاول أحد السياسيين الأتراك العودة بالأمة إلى جذورها، أخمد الجيش المحاولة، بل نكّل بأصحابها، حتى عام 2002 عندما فاز حزب العدالة والتنمية، المنشأ حديثا حينذاك، بالانتخابات، وتم تشكيل الحكومة لتبدأ مرحلة جديدة في التاريخ التركي ما زالت مستمرة حتى الآن.

بعد إصرار كبار دول الاتحاد الأوروبي على وضع العراقيل أمام انضمام تركيا إليه، بل ورفض انضمامه صراحة باعتباره بلدا إسلاميا، توجهت الإدارة التركية إلى دول الجوار وإلى العالم الإسلامي بعد تأسيسها مجموعة الثمانية الإسلامية على غرار مجموعة الثمانية المكونة من الدول الكبرى، وزاد حجم التجارة مع الدول الإسلامية لتعويض جانب من العجز التجاري المزمن نتيجة النقص الكبير في الطاقة، لكن الجانب الأكبر من التجارة الخارجية السلعية والخدمية ظل مع العالم الغربي حتى الآن.

واكب التوجه التركي للانفتاح على العالم الإسلامي اتخاذ مواقف مناصرة لقضايا فلسطين والأقلية المسلمة بالصين وفي ميانمار وغيرهما، مما زاد من شعبية حكم العدالة والتنمية في أنحاء العالم الإسلامي، الذي كان ولا يزال يبحث عن دولة نموذج تعبر عن أمانيه في الحكم الرشيد القادم عبر صناديق الاقتراع وليس عبر الدبابات، والذي يهتم بتنمية الأقاليم قدر اهتمامه بالعاصمة، ويحارب الفساد ويهتم بالتصنيع والتكنولوجيا والتحديث، مع الحفاظ على الهوية.

زاد التواصل بين الجانبين خلال فترة الربيع العربي، كما زاد الدور التركي ليصل إلى الدول الناطقة بالتركية، وأصبح لها دور حاسم في النزاع بين أذربيجان وأرمينيا، وفي النزاع داخل ليبيا. كما سعت لكسر الحصار على الفلسطينيين، وأصبحت لها قواعد عسكرية بالسودان وغيرها. لجأت إليها قطر لمعاونتها بعدما هددتها دول الجوار بالتدخل العسكري، كما استعانت بها لتأمين بطولة كأس العالم التي أقيمت بها.

تركيا السادسة سكانا بين الدول الإسلامية

استقبلت تركيا في عهد العدالة والتنمية الفارين من بعض البلدان الإسلامية كسوريا ومصر، حتى بلغ عدد العمالة المهاجرة إليها أكثر من 5 ملايين شخص، وبلغت معوناتها الخارجية 8 مليارات دولار عام 2020 أي أكثر من كثير من مجموعة الدول المانحة، مما رسّخ مكانة تركيا في العديد من البلدان الإسلامية بوصفها مدافعة عن قضايا المسلمين.

وعلى الرغم من أنها ليست الأكبر من حيث عدد السكان بين الدول الإسلامية، فإنها تأتي في المركز السادس بعد إندونيسيا وباكستان ونيجيريا وبنغلاديش ومصر وإيران، وتأتي في المركز العاشر بين الدول الإسلامية من حيث المساحة. وتحتل المركز التاسع عشر عالميا في الاقتصاد الدولي وفق بيانات العام الأسبق.

وفي ظل استمرار وجودها ما بين المركز السابع عشر والثامن عشر خلال السنوات العشر الأخيرة، وتنوع صادراتها الصناعية، ومكانتها في التجارة السلعية الدولية في المركز السابع والعشرين عام 2021، ومكانتها في التجارة الخدمية الدولية حتى إنها جاءت بالمركز السادس في عدد السياح الواصلين من دول العالم قبل ظهور فيروس كورونا، وامتلاكها ثاني قوة عسكرية بين دول حلف الناتو، كل ذلك عزز الربط الوجداني بينها وبين الكثيرين في العالم الإسلامي كرمز لهم.

هذا الرابط الوجداني مصدره افتقاد الكثيرين إلى دولة تفخر بعقيدتها وتعتبرها عونا على التنمية وليست معوقا لها، حيث تهتم بتعليم الدين والأخلاق وترفض الشذوذ وغيرها من الأمور التي لا تتسق مع عقيدتها، فكانت تركيا التي أعادت الحجاب إلى المصالح الحكومية والجامعات بعد أن كان ذلك من المحظورات، بل وإلى البرلمان الذي طرد نائبة منتخبة لمجرد أنها محجبة.

أقبل الكثيرون على المسلسلات التركية التي تذكرهم بأمجاد الدولة العثمانية وقياداتها وفتوحاتها وبأخلاق الدين الحنيف، وبالدور التاريخي للسلطان عبد الحميد ضد اليهود في فلسطين، كما أقبلوا على المسلسلات الاجتماعية الهادفة، واتخذ الكثيرون من المدن التركية مكانا لقضاء إجازاتهم، واشترى الكثيرون مساكن هناك، وزاد تردد التجار على المدن التركية للتعاقد على الصفقات التجارية.

أذكر هنا عندما تعرض التجار بمصر لحملة إعلامية قاسية تحرضهم على مقاطعة السلع التركية، سألت أحد تجار المفروشات عن مدى استجابته لدعوة المقاطعة، فرد بأن المنتجات التركية عالية الجودة وعليها إقبال، ومهمتنا كتجار الاستجابة لرغبات الزبائن.

إضعاف الشعبية بالتلاعب بالليرة والتضخم

كان لابد أن يدفع النظام التركي ضريبة مواقفه تجاه القضية الفلسطينية والليبية والأذربيجانية وغيرها، حيث جرت محاولة للانقلاب عليه عام 2016، وصدرت قرارات لعدد من الدول العربية بمقاطعة المنتجات التركية، مما ينعكس بالطبع على استثمار وسياحة مواطني تلك الدول بها، وقيام جهات متعددة خارجية وداخلية بالمضاربة على الليرة التركية لإضعافها، مما يؤثر على ارتفاع تكاليف السلع المستوردة في دولة بها عجز تجاري مزمن يمتد لعدة عقود سابقة، وزاد من معدلات التضخم التي أججتها الحرب الروسية الأوكرانية بتأثيراتها السلبية على أسعار الوقود والغذاء.

كل ذلك أدى إلى تأثر شعبية الحزب الحاكم، ورافق ذلك اتهامات بالدكتاتورية للرئيس التركي من قبل بعض أحزاب المعارضة والدول الأوروبية والإعلام الأوروبي، وهي اتهامات لاقت قبولا من الكثير من الشباب التركي، في بلد مفتوح على العالم حيث يمكن التنقل منه بريا إلى العديد من الدول الأوروبية حيث يعمل الكثير من سكانه.

اضطر النظام التركي للتهدئة من مواقفه في العديد من القضايا الإسلامية، وأعاد تحسين العلاقة مع العديد من الدول التي سبق له إنكار مواقفها، كما طلب من المعارضين الموجودين بالداخل التركي التهدئة حفاظا على المصالح العليا التركية.

وقد التمس الكثيرون له العذر في تلك التهدئة، وهم يرون النتائج العملية لعدم الرضا الغربي عن أي من القيادات في أنحاء العالم، منها العالم الإسلامي بالطبع، مثلما حدث مع الرئيس المصري محمد مرسي، ودعم الجنرال خليفة حفتر بليبيا نكاية في حكومة طرابلس، واستبعاد الحكومة ذات التوجه الإسلامي بالمغرب، وما حصل لزعيم حزب النهضة راشد الغنوشي بتونس، ومؤخرا ما حدث لرئيس الوزراء الأسبق عمران خان في باكستان.

ساهمت الإنجازات التي تحققت في عهد العدالة والتنمية في مجال الطرق والمواصلات والمطارات وتصنيع سيارة كهربائية وحاملة طائرات، وطائرات مقاتلة، في زيادة معدلات الفخر والثقة في الوقت نفسه بإمكانية نقل تلك التجرية التنموية إلى باقي الدول الإسلامية في يوم ما.

تجميع الصفوف مهمة الحكماء بحزب العدالة

لأنه لا يوجد بديل على مستوى الدول الإسلامية حاليا للدور الذي تقوم به تركيا في ظل حكومة العدالة والتنمية، فقد اشتد اهتمام الملايين بأنحاء العالم الإسلامي بالانتخابات التركية، وازدادت مخاوفهم من دور الدول الغربية بها ودور الإعلام الغربي المناهض للرئيس التركي وإصراره على ربطه بالدكتاتورية.

جاء يوم الانتخابات في الرابع عشر من الشهر الحالي ليتابع الملايين المشهد على مدار الساعة، ولم ينم الكثيرون قبل تأكدهم من حصول حزب العدالة والتنمية على الأغلبية بالبرلمان الجديد، ودخول الرئيس التركي جولة إعادة حسب النتائج الأولية غير الرسمية، ليتنفس الملايين الصعداء شاكرين الله على استجابته لدعائهم في استمرار النموذج الذي يعبر عن أحلامهم بقدر المستطاع في عالم رافض للفكرة الإسلامية ومُشوها لها، آملين أن يستفيد العدالة والتنمية من خبرات العملية الانتخابية العسيرة والصعبة، وأن يستعيد قياداته السابقة التي انضمت إلى المعارضة، وأن يردم الفجوة بينه وبين أنصار الزعيم الروحي فتح الله غولن، حيث توجد الكثير من الأهداف المشتركة بينهما.

هكذا تستمر حالة الترقب والانتظار والقلق أسبوعين إضافيين حتى يتم حسم منصب الرئاسة بالجولة القادمة من الاقتراع، وإن كانت حالة القلق لن تنتهي طوال السنوات المقبلة في ظل حالة الترصد من جانب الدول الغربية وحلفاءها لتحجيم الدور التركي دوليا وإقليميا، وحرصها على عدم وجود نموذج مُلهم للتيار الإسلامي بأنحاء العالم يمنحه الأمل في إمكانية تكرار النموذج في دول أخرى.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!