ترك برس

إنّه “أبو الخيرات” و”الفاتح” و”أبو الفتح والمعالي” و”صاحب البشارة” السلطان العثماني محمّد خان الثّاني ابن السلطان مراد، وهو السلطان السابع في سلسلة آل عثمان، والخامس الذي حظي بلقب السّلطان.

في التّاسع والعشرين من أيّار/ مايو من كلّ عام تهبّ على القلوب نسائمُ ذكرى الفتح الكبير الذي بشّر به النبيّ صلى الله عليه وسلّم؛ فتح القسطنطينيّة الذي كان في عام 1453م، أي بعد سنتين من تسلّم السلطان محمد الثاني الحكم الذي آل إليه بعد أبيه مراد وله من العمر اثنتان وعشرون سنة.

بعد سنتين من تسلّمه الحكم حقّق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلّم فكان هو البشارة وكان جيشه الممدوح في قوله صلى الله عليه وسلّم: “لَتُفْتَحَنَّ القُسْطَنْطِينِيَّةُ؛ فلَنِعْمَ الأميرُ أميرُها ولَنِعْمَ الجيشُ ذلكَ الجيش”.

ومن الطبيعيّ بل من الضروريّ أن تثورَ في الذّهن أسئلةٌ عن نشأة وتأهيل هذا الشّاب الذي آلت إليه مقاليد أكبر إمبراطوريّة في العالم فساسَها وهو ابن اثنتين وعشرين سنةً ثم فتح الله تعالى على يديه أعتى وأمنع مدن الأرض التي استعصت على خلفاء بني أميّة وحملاتهم وتأخّر فتحها ثمانية قرون ليكون على يدي شّاب ابن أربعة وعشرين سنة؟

في السّابع والعشرين من رجب سنة 835هـ كانت ولادة السّلطان محمّد الثّاني، والسابع والعشرون من رجب هو يوم ذكرى الإسراء والمعراج وهو يوم تحرير صلاح الدّين لبيت المقدس والمسجد الأقصى المبارك، وكلا الحدثين فيه رائحة الفتح ومعناه ومقتضاه، وهذا من موافقات القدر اللّطيفة.

درج السلطان محمد الفاتح في قصر والده، وكان مقتضى هذا أن يعيش حياة الرفاهية والدلال والنعومة، غير أنّ الواقع كان خلاف ذلك، فكانت طفولته أبعد ما تكون عن دلال الأطفال وتنعّمهم ورفاهيتهم بل حرص والده على إشعاره بالمسؤوليّة باكرًا فزجّ به في حلقات التعلّم والتحصيل المكثّف.

مع طفولته المبكّرة عهد به والده إلى الملّا أحمد بن إسماعيل بن عثمان الكوراني، وهو عالمٌ كرديّ من كردستان العراق، وكان مفسّرًا وفقيهًا شافعيّ المذهب، ومع كتاب الله تعالى كانت البداية، وكانت النشأة الأولى مع آيات الله تعالى حفظًا وتدبّرًا وتأمّلًا، فأتمّ حفظ القرآن الكريم في طفولته، وكان المربّي الأول له الشّيخ الكوراني لا يتهاون في تعليمه وتربيته، بل إنّه كان يقرعه بالعصا كلما رأى منه تساهلًا وتكاسلًا ويقسو عليه أكثر مما يقسو عامة المعلمين والمربين على من يرعون شؤونهم، كما أنّ الكوراني هو أوّل من زرع في رأسه فكرة فتح القسطنطينيّة من خلال تذكيره بها وتشريبه فكرة أنّه هو الفاتح المقصود بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلّم.

وبعد إتمام السلطان محمّد الفاتح حفظ القرآن الكريم عهد به والده إلى العالم المربّي آق شمس الدّين الذي يعدّ الأب الرّوحي للسّلطان بل إنّه دون مبالغة يعدّ الفاتح المعنويّ للقسطنطينيّة.

وآق شمس الدّين عالمٌ دمشقيّ جمع بين علوم الدّين والدّنيا مع صلاحٍ نادر وزهد عجيب، وكان أوّل ما فعله مع السلطان محمد الفاتح أن علّمه اللغات ولا سيما العربيّة والفارسيّة، ثمّ علّمه الآداب والشعر العربيّ والتركيّ والفارسيّ، كما علّمه الرياضيات وعلوم التاريخ وعلم الفلك ومبادئ في علم الطبّ وكان آق شمس الدّين من أمهر الأطباء في زمانه، وقد قال عنه الشّوكاني في البدر الطالع: “وصار مع كونه طبيبًا للقلوب طبيبًا للأبدان، فإنّه اشتهر أن الشّجرة كانت تناديه، وتقول: أنا شفاء من المرض الفلاني، ثم اشتهرت بركته وظهر فضله”.

إنّ تعلم اللغات وتوسيع المعارف والعلوم هو من أهمّ ما نشأ عليه السلطان محمّد الفاتح، وإلى جانب ذلك كان آق شمس الدّين يتعاهده بالتزكية والمواظبة على العبادات والأذكار وصفاء النفس.

وكان بين فترة وأخرى يصحبه في رحلةٍ ترفيهيّة من نوع خاص، كانت هذه الرحلة تتكرّر إلى مكان واحد وهو أسوار القسطنطينيّة، ويجعله يقف أمامها متأمّلًا ويحدثه مطولًا عن أنّه هو من سيتجاوز هذه الأسوار وسيكون الفاتح الذي بشّر به رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

هذا الأثر التعليميّ والتربويّ الكبير عبّر عنه السلطان محمد الفاتح بعبارته الشّهيرة عقب فتح القسطنطينيّة: “إنّكم ترونني فرحًا، فرحي ليس فقط لفتح هذه القلعة، إنّ فرحي يتمثّل في وجود شيخٍ عزيز الجانب في عهدي، هو مؤدّبي الشّيخ آق شمس الدين”.

وبعد النشأة التحصيليّة والبنائيّة المنهجيّة في العلوم والمعارف والتربيّة والتزكية التي تلقّاها السلطان محمد الفاتح ألقى به والده في غمار التجارب التدريبيّة فعهد إليه وهو في سنّ الثامنة عشرة بإدارة إمارة “مغنيسيا” وأحاطه بكلّ من الشيخ آق شمس الدين والملا أحمد الكوراني.

من أهمّ ما نشأ عليه السلطان محمد الفاتح في مهمته التدريبيّة هذه وطبّقه عمليًّا في الإمارة ثم طبّقه بعد ذلك في سائر السلطنة العثمانيّة فور تسلّمه مقاليد الحكم؛ إعادة تنظيم إدارات الدّولة المختلفة وفق أسس وقواعد إداريّة واضحة، والاهتمام كثيرًا بالسياسة المالية، فعمل على تحديد موارد الدولة، وطرق الصّرف منها بشكل يمنع الإسراف والبذخ وتضييع المال العام في غير ما يجب أن يكون فيه.

كما أولى اهتمامًا خاصًّا بالمؤسسة العسكريّة تقنيًّا وإداريًّا؛ فعمل على تطوير كتائب الجيش، فأعاد تنظيمها وترتيبها، ووضع سجلات ودواوين خاصة بالجند، وزاد مرتباتهم كما عمل على توفير وصناعة أحدث الأسلحة المتوافرة في ذلك العصر.

فكانت دورته التأهيليّة متركزة على آليات الإصلاح الإداري والإصلاح المالي إلى جانب الإصلاح الاجتماعي والدّيني.

لقد نشأ السلطان محمّد الفاتح على مدى اثنتين وعشرين سنة على التربية الإيمانيّة والتزكية القلبيّة وتحصيل العلوم الشرعيّة وسعة الاطلاع في المعارف المختلفة والجمع بين العلوم الإنسانيّة والعلوم التجريبيّة، كما نشأ على التأهيل والتدريب على الإدارة والقيادة وإصلاح الملفات المختلفة، وهذه النشأة التي جمعت كلّ هذا في شخص الشّاب محمّد الثاني هي التي أهّلته ليكون السلطان محمّد الفاتح الذي يفتح الله على يديه القسطنطينيّة ويكون بشارة النبيّ محمد صلى الله عليه وسلّم؛ فهلّا تفكّر الشباب والمربون والمصلحون والمدرّبون ممن ينشدون الفتح والتغيير في هذه النشأة وهذا التّأهيل؟


** مقال تحليلي للكاتب والباحث الفلسطيني محمد خير موسى، نشره موقع الجزيرة مباشر

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!