علي أبو هميلة - الجزيرة مباشر

نعم، انتصرت تركيا وأخرست إعلام كثير من الدول التي تتشدق بالديمقراطية كل صباح، ولكنها حرضت شعبا على مواطن يترشح للرئاسة بكل السبل الإعلامية ووضعت صوره على الأغلفة وفي الصفحات، فأخرسهم الشعب التركي بحضوره الكبير ودعمه لرئيسه، فكان ردا قاسيا على تلك الوسائل، فعادت تغرد لصفعة الشعب التركي وتصف الرجل بأنه أسد أنقرة، ليردد الأتراك “سوس.. أدب سيس” لكل من تطاول على الرجل الذي اختاروه ليستكملوا معه طريق تركيا في سنوات خمس لمئوية الجمهورية الثانية.

نعم، انتصرت إرادة الشعب التركي حين أجبر كل رؤساء العالم وشعوبه على انتظار النتائج كما ينتظرها أي مواطن تركي على مقاهي إسطنبول وأنقرة وملاطيا، وبعد فوز أردوغان جاء الجميع إليهم ليقدّموا التهاني للرجل الذي حاربوه من قبل موعد الانتخابات بشهور، وسحبوا سفراء تسع دول أوربية من العاصمة التركية ليحاصروه ويهددوا الشعب إذا انتخبه، فكان رد الشعب التركي بليغا وانتصر عليهم، وفاز الرجل الذي نعتوه بالديكتاتورية، فأدار معركة ستظل مثالا لكل دول العالم في الممارسة الديمقراطية، ودخل جولة انتخابية ثانية بفارق أقل من نصف بالمئة.

انتصرت تركيا، كما قال رئيسها الجديد رجب طيب أردوغان في خطاب النصر، عندما اعترفت المعارضة بنتائج الانتخابات عشية إعلان نتائجها، بل هنأ هؤلاء الرئيس الجديد المستمر لولاية ثالثة له، وفي تحلي قادة المعارضة بالحكمة السياسية انتصار لهم وانتصار لتركيا، أي نعم جاء خطاب المرشح الخاسر صارخا قليلا، ولكن هذا طبيعي لسياسي كان قاب قوسين أو أدنى من رئاسة دولة لها دورها في الساحة السياسية الدولية، ولكنه لم يشكك في نتيجة الانتخابات، ولم يطعن عليها، إنه النضج السياسي لمُعارض استطاع أن يجمع كل المتعارضين سياسيا ليكسبوا المعركة، ولكن فاز الرجل.

انتصرت تركيا بشعبها الذي كسب المعركة حين ترك الخاسرون ميادين الدولة وشوارعها لأنصار الرئيس المنتخب بعد إعلان النتيجة ليفرحوا بمكسبهم، فلم تشهد تركيا في أي شارع أو ميدان احتكاكا بين منتصر وخاسر، ولم تفلت أعصاب أحد رغم توقع حدوث بعضها خاصة بين الشباب، لكن مرت الليلة بسلام هادئ تدعمه ممارسة ديمقراطية طويلة، وهدوء من سعى ولم يوفق، والملاحظة الجميلة هنا أن المساكن التركية لم تشهد تعبيرا عن فرحة المنتصرين حرصا على مشاعر من خسر الانتخابات، فهؤلاء وعوا أن صباح اليوم التالي سيأتي وهم في شقق متجاورة، وسيتبادلون تحية الصباح، ويأمنون لهم، هذا الوعي هو ما يدعم الطريق إلى مستقبلهم.

انتصرت تركيا حين جاء اليوم التالي لتتويج الرئيس بولايته الجديدة، وقد اختفت من الشوارع كل مظاهر معركة الانتخابات، اليوم إجازة منحتها الدولة لمواطنيها، ووسائل المواصلات العامة مجانية -يحدث هذا في كل الأعياد في تركيا- وهو أيضا يوم الاحتفال بفتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح في 29 مايو/أيار 1453، ورغم تزامن فوز الرئيس مع هذه الذكرى فإن شوارع مدينة كبيرة مثل إسطنبول كانت هادئة. انتهزت فرصة مجانية المواصلات، وتجولت في أكثر من عشرة أحياء بين جانبيها الأوربي والآسيوي، زرت منطقة السلطان أحمد ومسجد آيا صوفيا، وساحل أسكودار في الجانب الآسيوي، وعبرت مضيق البوسفور، خمس ساعات في طرق وأحياء، وكانت الظاهرة الأكثر حضورا هو عبور تركيا حالة الانتخابات وتعصبها وحتى أفراح الناس وأحزانهم، فقد عادت الأمور كلها إلى طبيعتها.

انتصرت تركيا حين شاهدت معظم شوارع إسطنبول يوم الانتخابات واليوم التالي له، فلم أجد لافتة انتخابية واحدة على حوائطها، وكأن جيشا من موظفي البلدية قد أزالوا كل هذه اللافتات بمجرد بدء الصمت الانتخابي، رغم أن حجم الإعلانات الانتخابية واللافتات كان ضخما، سواء في الجولة الأولى التي كانت مضاعفة لوجود انتخابات البرلمان مع الرئاسة، وكذلك لمزج صور قادة تحالف المعارضة السبعة مع صورة مرشحهم، فكان الطيب أردوغان في مواجهة ثمانية مرشحين، ولكن الرجل فاز.

انتصرت تركيا حين اختارت التوافق بين برلمانها والرئيس، بنسبة فاقت 52%، واختارت رجلا واحدا بدلا من ثمانية، اختارت تركيا التوافق بين من يمتلك القرار التنفيذي ومن يمتلك التشريع، هذا التوافق الذي ينهي الخلافات والتناحر بين رئيس وكتلة برلمانية تتعارض مع توجهاته، وفاز الرجل بهدوء في تمرير سياساته بلا شحن أو خلافات.

يكفي أردوغان أن هناك دولا ما زالت تحارب تجربته في النهوض ببلده، حتى أن رئيس أحد الأحزاب الهولندية دعا المهاجرين الأتراك للعودة إلى تركيا لأنهم انتخبوا أردوغان، ورغم حصارات بدأت منذ مطلع العام فإن الشعب التركي وضع حدّا لكل تلك الحملات الدعائية والإجراءات السياسية والدبلوماسية والشعبية لدول سعت لهدم دولته، فانتصر على هذا كله، وفاز الرجل لتمتلأ شوارع تركيا بالأفراح والبهجة، وليطمئن كثير من المظلومين في تركيا والعالم. فاز الرجل لتعم الفرحة شوارع القدس وغزة والضفة، وبيروت والدوحة، ولا عزاء للمتشدقين، فعندما تحضر الشعوب وتبوح القلوب بمحبتها، فلا محل لفلسفة الجالسين في مقاعد التنظير يلطمون، لأن تركيا انتصرت وفاز الرجل.

عن الكاتب

علي أبو هميلة

إعلامي مصري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس