سمير العركي - الجزيرة مباشر
يومًا بعد الآخر يتصاعد التوتر في القوقاز، إذ تتجمع سحب الحرب مجددًا بين أذربيجان وأرمينيا مع دفع الدولتين بمزيد من الحشود العسكرية صوب نقاط التماس في إقليم كاراباخ الذي لا تزال أرمينيا تحتل أجزاءً منه.
الصراع المؤجل بين الدولتين يوشك أن يندلع مرة أخرى، منذرًا هذه المرة باتساع رقعته وضم بلدان جديدة إليه.
فالحرب التي دارت رحاها في سبتمبر 2020 واستمرت أسابيع، لم تضع نقطة النهاية في الصراع المستمر منذ عقود، رغم هزيمة أرمينيا ونجاح القوات الأذربيجانية في تحرير مقاطعات أقدام وكالبجار ولاتشين، والسيطرة على مدينة شوشة التي تُعَد العاصمة الثقافية للإقليم.
إلا أن القوات الأرمينية لا تزال تسيطر على بعض مناطق الإقليم، ولم يفلح اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه برعاية روسية، أن يتطور إلى اتفاق سلام شامل ودائم، وبدا وكأنه فرصة لالتقاط الأنفاس خاصة من الجانب الأرميني وإعادة ترتيب التحالفات الدولية والإقليمية.
في شهر أغسطس/آب الماضي، اتهمت يريفان القوات الأذربيجانية بإغلاق ممر لاتشين الذي يربط بين أرمينيا وإقليم كاراباخ، مما أدى إلى منع وصول المواد الغذائية والمساعدات الإنسانية إلى سكانه الأرمن.
لكن باكو نفت ذلك، وقالت إن قواتها تمارس حقها في تفتيش السيارات للتأكد من خلوها من السلاح.
وكان الممر يعمل بموجب اتفاق وقف إطلاق النار المُوقع عام 2020، حيث تعهدت روسيا بالحفاظ على عمل الممر ونشرت قوات لحفظ سلام تابعة لها.
أما الممر الآخر الأكثر أهمية، فهو ممر “زنغيزور” الاستراتيجي الذي يربط بين أذربيجان وإقليم ناخشيفان الذاتي الحكم، إذ تقطع الحدود الأرمينية الأراضي الأذربيجانية، ولا يتاح لها الاتصال البري إلا عبر هذا الممر، كما أن الممر يربط بين تركيا وأذربيجان وصولًا إلى دول العالم التركي.
أرمينيا ترفض إعادة فتح الممر-الذي يعاد تأهيله الآن من قِبل أنقرة وباكو- إلا تحت إشرافها حتى لا تفقد سيطرتها على حدودها الجنوبية مع إيران الحليفة، وتصبح محاصرة بين دول ليست صديقة لها، وهي أذربيجان من الشرق، وتركيا غربًا، وجورجيا شمالًا.
إيران من جانبها دخلت على خط الأزمة، وتعُد إعادة تشغيل الممر خطًّا أحمر بالنسبة إليها، ودفعت بحشود عسكرية إلى المنطقة، التي استبقتها بمناورات عسكرية ضخمة قبل نحو عام.
إعادة تشغيل الممر سيُدخل طهران في حسابات جيواستراتيجية واقتصادية وداخلية معقدة، إذ ستُحاصر شمالًا بتركيا وأذربيجان، وشرقًا بباكستان وأفغانستان وتركمانستان، كما أنها ستفقد موارد جمركية كانت تحصّلها من التجارة التركية-الأذربيجانية التي كانت تضطر إلى المرور من الأراضي الإيرانية.
فهل يمكن أن تلقي إيران بثقلها العسكري المباشر أو غير المباشر خلف أرمينيا حال اندلاع الحرب مجددًا؟ وما موقف تركيا حينئذ؟
الخيار العسكري لإيران لن يكون مجرد نزهة، أو على شاكلة الحروب التي تديرها في بلدان عربية عدة بواسطة مليشيات تقع تحت إشراف الحرس الثوري. فالأذريون يشكلون نحو 25% من تعداد سكان إيران وفق بعض التقديرات، ويتركزون في الشمال الغربي، تلك المنطقة التي تعُدّها باكو جزءًا من أراضي أذربيجان التاريخية، لذا فرد الفعل الداخلي “الأذري” متوقع وليس معروفًا مداه!
كما أن التدخل العسكري سيضع إيران وجهًا لوجه أمام تركيا، الملتزمة بأمن أذربيجان التزامًا صارمًا، ولن تقف مكتوفة الأيدي.
وكان لافتًا ما روجه إعلام روسي عن تحذير وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، الجانب الإيراني -خلال زيارته الأخيرة طهران- من أي تدخل في أي مواجهات قد تنشب بين أذربيجان وأرمينيا، مؤكدًا لهم أن تركيا لن تقف موقف المتفرج! الأمر الذي لم تُعقّب عليه الدولتان نفيًا أو إثباتً.
اللافت أن السردية الإيرانية تحاول استغلال العلاقات الأذربيجانية الإسرائيلية لتبرير تدخلها، لكنها سردية متهافتة، إذ تمتد تلك العلاقات إلى مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وليست وليدة اليوم.
في تقديري أنه من الصعوبة بمكان أن تتورط إيران في مثل هذا الصراع حال اندلاعه، لارتفاع تكلفته عليها.
في موازاة المواقف الإقليمية المعقدة، هناك مواقف دولية لا تقل تعقيدًا وتباينًا، فروسيا تبدي تململًا واضحًا من سياسات أرمينيا “الحليفة”، فقد استدعت سفيرها لدى موسكو للاحتجاج على تدريبات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة، كما اعترضت على تصريحات رئيس البرلمان الأرميني، التي عدّتها مهينة للدولة الروسية.
الاتحاد الأوروبي يحاول بناء سياسة متوازنة، واستضاف في بروكسل في يوليو/تموز الماضي جولة مفاوضات جمعت الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، دون نتائج ملموسة.
ورفض الاتحاد أخيرًا انتخاب إقليم كاراباخ، سامفيل شهرمانيان، رئيسًا انفصاليًّا، إذ يُعَد الأقليم -وفق القرارات الدولية- أراضي أذربيجانية خالصة.
وهذا الرفض يعكس حرص الاتحاد على المحافظة على علاقات متوازنة مع طرفي الأزمة، خاصة أذربيجان، التي تُعَد موردًا مهمًّا للغاز إلى أوروبا، خاصة مع استمرار الحرب الأوكرانية، إذ ارتفعت صادرات الغاز الأذربيجاني إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2022 إلى 11.4 مليار متر مكعب.
لكن داخل الاتحاد الأوروبي، يوجد الموقف الفرنسي الداعم بقوة لأرمينيا، مدفوعًا برغبة باريس في إلحاق أضرار استراتيجية بكل من روسيا وتركيا.
أما الولايات المتحدة فلا تزال تقف في منطقة رمادية، وليس من المنتظر أن تتورط في صراع كهذا حال اندلاعه، وأقدامها لا تزال موحولة في مستنقع الحرب الروسية الأوكرانية.
هذه المواقف الإقليمية والدولية المتباينة، مع هشاشة اتفاق وقف إطلاق النار، تفتح الباب واسعًا أمام جميع السيناريوهات في منطقة القوقاز، المرشحة لأن تكون بؤرة صراع جديد قد يسهم في إعادة تشكيل جغرافيا المنطقة من جديد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس