د. سمير صالحة - أساس ميديا

تحاول أنقرة منذ أشهر توجيه رسائل انفتاحية نحو الغرب بحثاً عن فرص للتهدئة وتحسين العلاقات المتوتّرة. لكنّها تردّد في الوقت نفسه أنّ ذلك لن يكون على حساب مصالحها أو علاقاتها التي ستختارها وتحدّدها هي. بالمقابل عجزت الإدارة الأميركية عن منع التقارب والانفتاح بين تركيا وروسيا، وفشلت في إيجاد البديل الذي يمنحها مثل هذه الفرصة. فهل أعطاها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ما تريد عندما أعلن من نيويورك نفسها قبل أيام أنّه بقدر ما نبحث عن إقامة علاقات جيّدة مع أميركا نريد أن تكون علاقاتنا مع روسيا على هذا النحو أيضاً؟

الغزل انتهى
إغضاب أنقرة أميركياً سيدفعها حتماً إلى استخدام أسلحتها الموجعة، وبينها الاقتراب أكثر من موسكو وبكين. لكنّها هي الأخرى ينبغي أن تكون جاهزة للردّ الأميركي عبر تحريك أوراق حسّاسة موجعة كما يحدث اليوم. يسدّد كلا الطرفين التركي والأميركي في صراع الحلبة الإقليمية نحو نقاط ضعف الجانب الآخر. لكنّ الضربات تذهب في الكثير من الأحيان باتجاه المحظور. وهو ما يجعل ثمن ذلك مكلفاً وباهظاً.
يقول إردوغان إنّ إرسال طلب العضوية السويدية للبرلمان التركي لن يكون مضمون النتائج: "بقدر ما هناك في أميركا مجلس مندوبين يصوّت ويقرّر باستقلالية عن السلطة السياسية الحاكمة، البرلمان التركي أيضاً وحده من يحدّد خياراته ومواقفه".
كان إردوغان يتحدّث وهو في طريقه إلى نيويورك ليس للقاء نظيره الأميركي جو بايدن، الذي لا نعرف بعد إذا ما كان سيلتقيه أم لا، بل للمشاركة في اجتماعات الدورة الـ78 للجمعية العامّة للأمم المتحدة.

ما الذي يدفع الرئيس التركي إلى تغيير موقفه، وهو الذي كان يردّد في أعقاب قمّة فيلنيوس الأطلسية قبل أسابيع أنّه سيسهّل إرسال طلب عضوية السويد في الحلف إلى البرلمان التركي لبحثه والتصويت عليه، وأنّه سيكون منفتحاً على دعم هذا الطلب إذا ما التزمت استوكهولم بتنفيذ التعهّدات التي أعطتها لأنقرة؟
يبدو أنّ إردوغان قرّر إنهاء رسائل غزل الغرب وتودّده لبلاده كلّما احتاج إليها. تأخذ العواصم الغربية ما تريد من أنقرة ثمّ تصعّد مجدّداً ضدّها كما يحدث اليوم على الرغم من الدور التركي في موضوع التصدّي لموجات اللجوء إلى أوروبا وجهود الوساطة التركية على خطّ موسكو – كييف في ملفّ الحبوب والخدمات التركية المقدّمة في مسائل تبادل الأسرى وتزويد أوكرانيا بالمسيّرات.
اتّسعت فجوة العلاقات التركية الغربية في العقدين الأخيرين وتراجعت فرص التعاون والثقة المتبادلة بعد تبدّل خارطة التحالفات الإقليمية في أكثر من ملفّ يعنيهما. هناك اصطفافات متباعدة اليوم في ملفّات سياسية وأمنيّة واقتصادية قادت إلى المزيد من التقارب التركي الروسي والتركي الصيني وإلى تباعد تركي أميركي وتركي أوروبي.

الاستدارات الإقليميّة
من هنا لا يكفي تحليل ودراسة ما يقوله الرئيس التركي من دون العودة إلى الأجواء السياسية والأمنيّة التي تواكب هذه التصريحات، ومنها الرسائل الغربية التصعيدية الموجّهة إلى أنقرة دفعة واحدة. فلِمَ لا يردّ إردوغان بنفس الطريقة والأسلوب؟
يدور الحديث عن استدارات إقليمية ذات طابع استراتيجي في مسائل التجارة والطاقة العابرة للقارّات بعد اختراق صيني وهندي في أكثر من بقعة جغرافية. المواجهة هنا ستكون أميركية روسية، لكنّها ستكون أميركية تركية إيرانية أيضاً.
يؤرق الانفتاح التركي الاستراتيجي على روسيا والصين الإدارة الأميركية التي ترى نفسها مجبرة على الردّ. الخطّ التجاري الهندي خطوة مهمّة بهذا الاتجاه. شكل الردّ التركي على الردّ الأميركي مهمّ أيضاً، بعد المزيد من الصفقات الأميركية – الإيرانية والأميركية – الهندية. فمسار العلاقات التركية الأميركية اليوم لا تحدّده رغبة الطرفين فقط. هناك اللاعبون الروسي والصيني والهندي أخيراً، إلى جانب لاعبين إقليميين ومحلّيين آخرين.
ينتظر العلاقات التركية ـ الأميركية الكثير من التحدّيات المرتبطة بملفّات توتّر وتباعد لا تُعدّ ولا تُحصى. تتمسّك أنقرة بعلاقاتها الاستراتيجية مع روسيا ومشاريع الانفتاح الأوسع على الصين وإغضاب واشنطن بتعريض مصالح حلفائها الإقليميين للخطر. وتتصلّب الإدارة الأميركية منذ عقد تقريباً في مواصلة محاولات إضعاف تركيا في المنطقة وتهديد مصالحها واستهداف اقتصادها كلّما سنحت لها الفرصة. عدم ذكر اسم تركيا في الخطّ التجاري الهندي العابر للقارّات أحد أهمّ المؤشّرات إلى هذا التوتّر.

انفتاح تركيا على مجموعة "بريكس" التي تشكّل رأس حربة في توفير نظام بديل لمواجهة النظام الدولي الغربي بقيادة أميركية، وطرح مشاريع تجارية واستثمارية عابرة للحدود مع العراق والجمهوريات التركية في آسيا بشراكة إيرانية روسية صينية، ردّان استباقيّان تركيّان على استبعاد تركيا من المشروع الهندي - الأميركي.
يردّد إردوغان أمام مراكز القرار الأميركي أنّ لوبيات كثيرة يهمّها تسميم العلاقات التركية الأميركية، لكنّنا سنقف سدّاً بوجهها. كيف سيفعل ذلك ومع من؟ ليس حتماً مع بايدن المعترض على الكثير من سياسات أنقرة الإقليمية.
يقول وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إنّ أنقرة باتت في قلب المعادلات الاستراتيجية الإقليمية والدولية ومركز السياسات والمشاريع العالمية بعدما تراجع الدور الغربي وفقدَ فرصه كمركز ثقل استراتيجي.
هل تتريّث واشنطن لسماع المزيد من دون أن تتحرّك للردّ؟
من المعروف عن إردوغان أنّه يرفع دائماً سقف المطالب والمواقف للوصول إلى ما يريده في مسائل تتطلّب الدفاع عن مصالح تركيا ورؤيتها. ترى واشنطن أنّ إردوغان يتمسّك بما يقول في أكثر الأحيان وأنّه لن يبدّل مواقفه وسياساته وأساليبه في قضايا داخلية وخارجية تعنيها، فلماذا تعطيه ما يريد بالمجّان؟

ما هو المطلوب؟
هناك الكثير من الحالات والمواقف التي تنتظر وتتطلّب التعامل السريع معها تركيّاً وأميركياً:
- ينتصر إردوغان في انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة قبل 4 أشهر مخيّباً آمال العديد من القيادات والعواصم الغربية التي راهنت على قوى المعارضة التركية. أميركا بدلاً من تغيير مواقفها وسياساتها حياله تواصل نبرتها في التحدّي والتصعيد وعدم الوقوف إلى جانبه في أزمات تركيا الاقتصادية والماليّة.
- توجّه أميركا رسائل اقتصادية انفتاحية نحو أنقرة وتستقبل وزير ماليّتها محمد شيمشاك لبحث سبل مساعدة تركيا في محنتها الحالية، لكنّها تقرّر تنفيذ العقوبات على 5 شركات تركية تقيم علاقات تجارية مع موسكو تحت ذريعة اختراق قوانين العقوبات والحظر الغربي ضدّ روسيا.
- يشيد الأمين العامّ لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ بجهود تركيا على خطّ الوساطات بين موسكو وكييف في ملفّات الحبوب والتهدئة في القرم. لكنّه يعلن أنّ علينا أن نهيّئ أنفسنا لحرب طويلة الأمد في أوكرانيا. قد يلتزم إردوغان ببنود التفاهم الثلاثي التركي السويدي الأطلسي على هامش قمّة الحلف وينقل الملفّ إلى البرلمان التركي للتصويت على عضوية السويد. لكن ليس مضموناً بالنسبة لواشنطن أن تعطيها أنقرة ما تريده. هل يصدم إردوغان أميركا والعواصم الغربية كما حدث قبل عقدين عندما رفض البرلمان نفسه السماح للقوات الأميركية بعبور الأراضي التركية وهي في طريقها لغزو العراق؟
- يتطلّع إردوغان صوب صفقة ومقايضة استراتيجية مع أميركا في ملفّ السويد. لكنّ واشنطن لا تهتمّ كثيراً. الأرجح أنّها تريد توتير علاقاتها مع تركيا للتخلّص من أعباء الكثير من الملفّات وأنّ الضحيّة قد تكون استوكهولم نفسها.
- أكثر ما يقلق الغرب اليوم هو نتائج القمّة التركية الروسية قبل أسبوعين في سوتشي. ربّما لن يجلس أحد في حضن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكنّ القيادات التركية لن تكون منفتحة على طلبات المشاركة في فرض العقوبات على روسيا.
- هناك عملية استعراض للعضلات الأميركية في جنوب القوقاز من خلال المناورات العسكرية المشتركة مع يريفان التي أُجريت أخيراً. يقول إردوغان إنّ بلاده اقترحت على الأطراف عقد اجتماع ثلاثي حول قضية قره باغ، ويمكن توسيعه ليكون رباعياً بإشراك روسيا فيه، لكنّ واشنطن تذهب باتجاه دعم يريفان في مواقفها وسياساتها ودفعها نحو إعلان أنّها ارتكبت خطأ استراتيجياً من خلال الرهان على موسكو في قره باغ. العمليات الأمنيّة التي بدأتها باكو قبل ساعات تحمل أيضاً رسائل ردّ تركي مباشر على سياسة واشنطن الأرمينية التي وحّدت تركيا وروسيا ضدّها وضدّ يريفان.

- آخر ما فعلته واشنطن كان تقرير الخارجية الأميركية لعام 2023 عن الاتّجار بالبشر الذي يدرج اسم تركيا ضمن قائمة الدول التي تجنّد أطفالاً في الحروب، وهو ما وصفته أنقرة بـ"افتراء مرفوض". تحرّك أميركي أغضب تركيا لكنّه يعكس صورة المشهد الأخير في مسار العلاقات التركية الأميركية.
أعلنت بغداد أنّ مسيّرة تركيّة هاجمت مطاراً مدنياً في السليمانية قبل يومين مسفرةً عن سقوط قتلى وجرحى، وأنّها ستستدعي السفير التركي للاحتجاج. الشقّ التركي الأميركي في الهجوم هو أنّ أنقرة متمسّكة باستهداف حلفاء واشنطن الجدد على خطّ شرق الفرات وشمال العراق، من قيادات وكوادر "قسد" الذين هم شركاء "حزب العمال الكردستاني".

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس