بلال داود - ترك برس 

العلاقة المتشنجة بين الشرق و الغرب  ليست جديدة، بل هي موغلة في القدم ، و لها صور وحوادث متعددة ، كما أن لها أوجه و تشعبات كثيرة، ولو تحدثنا على وجه الخصوص بين الغرب المسيحي والشرق الأوسط الإسلامي ، ابتداءا من أيام الخلافة الراشدة، التي قضت على أعظم إمبراطوريتين في ذلك الزمن، روما وفارس، في منتصف القرن السابع الميلادي تقريبا، و لم يبق لهما وجود في الشرق الأوسط .

ثم انحسرت  الإمبراطورية الرومانية، و تقوقعت في روما و انشقت عنها الكنيسة الشرقية في بيزنطة ، بينما اندثرت الامبراطورية الفارسية ، حتى مجيء آية الله الخميني في العصر الحديث ، فبدأ العمل على إعادة نفخ الكير من جديد .

منذ ذلك اليوم و روما لم تنفك عن التفكير في استعادة مجدها القديم ، كما أن النار المجوسية لم تنطفي بالمطلق تحت الرماد.

 في مطلع الالفية الثانية وتحديدا في العام 1095 وجد البابا أوربان الثاني في رسالة الإمبراطور البيزنطي الكسيوس كومنين (وكان يستنهض همم روما لإيقاف النمو السلجوقي حينها) وجد فيها فرصة مناسبة لاعادة المنطقة إلى سيطرة روما خصوصا والغرب المسيحي عموما ، و ذلك تحت زعم تخليص القدس من ايدي المحتلين المسلمين ، و بدأت معها الحروب الصليبية التي امتدت حوالي مائتي عام قبل القضاء على تلك الاحلام الغربية ، ثم نامت أوروبا بعد ذلك في عصر الظلمات قرونا ، و عادت  لتصحو من جديد بعد استرداد الأندلس ( إسبانيا ) ، منتصف القرن الخامس عشر الميلادي تقريبا …

 منذ بداية عصر النهضة في أوروبا مطلع القرن السادس عشر الميلادي والعقل الأوروبي مشغول في التفكير بإيجاد عبقرية خاصة تقوده  إلى الخلاص من الامبراطورية العثمانية الممتدة فوق كامل تركيا و نصف أوروبا الشرقية و كذلك المنطقة العربية بما فيها جزيرة العرب و شمال أفريقيا وصولا الى شواطئ المحيط الأطلسي، و في القرن التاسع عشر بدأت تنضج أفكار الغرب الأوروبي المسيحي، في كيفية تقويض أركان الامبراطورية العثمانية، حامية الشرق الأوسط وحامية المقدسات الإسلامية ، من خلال ارسال الجواسيس الأوروبيين الى بلاد الشرق الاوسط تباعا تحت مسمى( الاستشراق ) ، وقد وجد اولئك المستشرقون عبر اقامتهم في الدول الإسلامية العربية وغير العربية ، أن تفكيك الامبراطورية العثمانية من الصعب ان يتم بل هو  اقرب الى المستحيل بسبب ترابط الشعوب المسلمة فيما بينها ، فهي منذ الفتوحات الاسلامية الأولى تعيش تحت ظل خلافة تجمعها و إن تبدلت الاسرة الحاكمة و لكن الامبراطورية بقيت كما هي وبقي شعبها في مكانه و لم تتغير أنماط الحياة …. و اقتنعت أنها ترضى بحاكم ظالم شرط ان يكون مسلما على أن تقبل حاكما غير مسلم ، خصوصا ان الشعوب الاسلامية كانت حينها متمسكة بخيار واحد هو الخلافة الاسلامية …

 و بعد عقود من إرسال المستشرقين لدراسة أحوال العرب والمسلمين و أفكارهم و عقيدتهم و ما يمكن أن يجمعهم وما يمكن أن يفرقهم و نقاط الضعف و نقاط القوة ، وصلوا إلى الفكرة العبقرية التي عملوا على تطبيقها منذ مطلع القرن التاسع عشر تقريبا ، و خلاصتها مكون من كلمتين اثنتين : (((( فرق تسد )))) وًمن أجل التفريق للوصول إلى السيادة ، جاءت عبقرية  نشر نظرية القوميات و فعلا استمر الجهد طويلا بطيئا استغرق قرابة مائة عام قبل أن يتمكنوا من تجييش العرب ضد الامبراطورية العثمانية، طبعا هذا الكلام لا ينفي وجود الكثير من المظالم في العهد الثماني في جميع المناطق العربية وغير العربية، التي ساعدت كثيرا في تحميس الناس للثورة ضد الإمبراطورية العثمانية المترهلة.

 وكان ثمرة تلك الجهود الغربية الأوروبية المسيحية أن صار لدينا في المنطقة قومية عربية و قومية تركية و قوميات صغيرة كثيرة كالقومية الكردية مثلا و الآشورية و السريانية و التركمانية و القبطية و الأمازيغية….، كما بدأت التجمعات الطائفية تظهر و ان كان على خجل.

 النفخ الأوروبي الغربي المسيحي بدأ يؤتي ثماره مع اقتناع الشريف حسين بن علي بضرورة  القضاء على الوجود العثماني في المنطقة العربية ، وهو يحلم و تمنيه بريطانيا بحكم المنطقة العربية كخليفة عربي، لكنه بسبب قصر النظر وعدم التعمق في الأهداف البعيدة الخفية للأوروبيين لم يتمكن من الحفاظ على ملكه الأصلي ( الحجاز) فضلا عن تحقيق أي أهداف أكبر، فقد خسرها لصالح الملك عبدالعزيز آل سعود …

 وكان ما هو معروف من احتلال أوروبا للعالم العربي وتركيا أيضا ، ثم جاءت مرحلة تطبيق سايكس بيكو التي مازلنا نرضخ لها ، و في تلك الفترة ايضا تمت معاهدة لوزان ١٩٢٨ التي تحدد الخاسر و الرابح في الحرب العالمية الأولى ، و تحدد حدود تركيا و باقي الدول التي كانت اصلا تحت ظل الخلافة العثمانية …

 خلال مرحلة الاستشراق في القرن التاسع عشر  كان الكثير من المستشرقين يهودا ، وعلى سبيل المثال، المستشرق (ليون كاهون): كان ضابطا يهوديا فرنسيا في قسم الاستخبارات الفرنسية ، حضر إلى سوريا بصفة مستشرق باحث دارس في التاريخ و الحضارات، و عاش عدة أشهر في جبال العلويين و سكن في بلدة القرداحة  تحت مظلة الاستشراق و ليس الجاسوسية، و كان له علاقات كبيرة و واسعة مع العلويين و في نهاية رحلته ألف كتابا بعنوان ( رحلة الى جبال العلويين ) ، و قد نشره عام 1878 م و هذا الكتاب يعطي فكرة عن ذلك النوع من الاستشراق الذي كان هدفه زرع الأفكار التي يريدون في أدمغة أهل المنطقة ، واقامة علاقات مع الزعماء المؤثرين ، فنراه يقول : ( أعترف أنه ليس هناك من شعب يستحق الخير أكثر من هذا الشعب الشريف و القوي ( يقصد العلويين )، و الذي يصبو بكل جوارحه إلى الحضارة و يحترم ذاته ،كما  أنه بقليل من الدعم الأوروبي سيُعَلّم بكل تأكيد الشعوب التي تحيط به كيف تحترم ذاتها ) .

   و كان اوضح المستشرقين و اقواهم تأثيرا توماس ادوارد لورنس  المشهور ب( لورنس العرب) وكان ضابطا في الجيش البريطاني في مصر، و لكنه تغلغل في المجتمع العربي في الحجاز باعتباره عالم آثار و كاتبا و شاعرا ، و هذا الشخص استطاع تحريك الجيوش من الحجاز لإعلان الثورة العربية الكبرى ، التي تزامنت مع الحرب العالمية الأولى …

عن الكاتب

بلال داود

كاتب و معارض سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس