د. سمير صالحة - نلفزيون سوريا

بدلا من أن تذهب تل أبيب وراء استغلال الفرص الإقليمية التي تقدم لها، وتبني مراجعة سياساتها في التعامل مع الملف الفلسطيني والاستجابة لمتطلبات واحتياجات سكان غزة، اختارت اعتماد المزيد من تضييق الخناق ومحاصرة مئات الآلاف من الفلسطينيين في "أنبوب الضغط" الغزاوي مستبعدة احتمال انفجاره في أية لحظة.

استفزاز الشعب الفلسطيني والعالم الإسلامي في الأقصى والضفة والقطاع وإطلاق يد العنصريين الإسرائيليين، والرهان على الذكاء الاصطناعي لحسم المواجهة في غزة لم ولن يخدم بنيامين نتنياهو وشركاءه.

دخلت عملية "طوفان الأقصى" التي بدأتها كتائب القسام في صفوف حماس على تخوم غزة والرد الإسرائيلي عليها تحت مسمى "السيوف الحديدية" أسبوعها الثاني دون تراجع حقيقي في حدة المعارك التي أدت حتى الآن إلى سقوط المئات من القتلى والجرحى والأسرى.

ارتدادات التصعيد الميداني انتقلت سريعا إلى جبهات جنوب لبنان وسوريا حيث ارتفعت نسبة التوتر والاستنفار، وإلى معبر رفح مع مصر الذي استهدفته المقاتلات الإسرائيلية محاولة إغلاقه لإنجاز عملية محاصرة القطاع الفلسطيني. التحرك المصري المضاد أفشل المخطط وبدأ عملية تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى سكان غزة.

انقسمت العواصم باكرا بين مؤيد ورافض ومتفرج. الموقف الأميركي المدعوم أوروبيا جاء الأسرع في الوقوف إلى جانب إسرائيل، عبر شحنات السلاح وإرسال حاملة الطائرات "جيرالد فورد" إلى سواحل المتوسط بهدف قطع الطريق على تحرك العديد من الدول وإلزامها بموقف واشنطن. روسيا والصين وإيران كانوا في الجانب الآخر مع العديد من العواصم العربية دون أي ترجمة ميدانية توازي التحرك الأميركي حتى الآن. المحايدون في آسيا وإفريقيا كثر أيضا لعدم تعريض المصالح والعلاقات مع دول الاصطفاف الحاصل للخطر.

لماذا تقرر أنقرة التحرك على خط التهدئة والوساطة؟

لأكثر من سبب:

- الأصوات المتعالية في الداخل التركي والتقاء مواقف القيادات السياسية والحزبية عند ضرورة تحرك المجتمع الدولي، والإسراع في التدخل من أجل التهدئة ووقف إطلاق النار والحؤول دون إراقة المزيد من دماء المدنيين في الجانبين.

- موقف البرلمان التركي الذي توحد في الحكم والمعارضة وراء توقيع بيان مشترك يدعو الأطراف للتهدئة. وما أعلنه دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف أردوغان في تحالف الجمهور حول "وجوب دعم سياسات الرئيس التركي الرامية لحل الأزمة القائمة بين الطرفين".

- وجود شعور تركي أن أنقرة ستكون أيضا في دائرة الخطر مثلها مثل العديد من الدول في الإقليم إذا ما إتسعت رقعة الحرب لتشمل الجبهة الشمالية في جنوب لبنان والتحرك الإيراني في سوريا عبر الجولان وأن مواجهة أميركية – إيرانية في المنطقة ستحمل معها تعقيدات إقليمية أكبر.

- تصريحات الرئيس التركي القديمة الجديدة حول "سنبذل ما بوسعنا للتعاون مع إسرائيل في شرق المتوسط، ولإحراز تقدّم عبر مقاربات إيجابية قائمة على أساس الربح المتبادل" من جهة، وتذكير تل أبيب بأبسط قواعد القانون الدولي الإنساني في غزة وضرورة احترام حقوق المدنيين في زمن الحرب من جهة ثانية، ما زالت سارية المفعول وهي كلها بين الأسباب وربما الفرص التي تدفع أنقرة للدخول على خط الوساطة.

مع من ستنسق أنقرة لإنجاح وساطتها ومن يملك مثل هذه الفرص؟

ليس مع طهران وواشنطن وباريس ولندن حتما إلا إذا بدلت في مواقفها وسياساتها. يتحدث أردوغان عن الاعتدال. هناك العديد من العواصم الإقليمية تتحدث باللغة نفسها أيضا، لكن تركيا ستتعاون مع القاهرة والرياض والدوحة وعمان وأبو ظبي بحسب المواقف والرسائل والاتصالات الجارية بين هذه العواصم، رغم قبول الجميع للدور المؤثر الأميركي والروسي لتسجيل أي اختراق أمني وسياسي.

يستفيد أردوغان من موقف قطر والإمارات بعد التحولات الأخيرة في العلاقات الخليجية الخليجية والتركية الخليجية. يستفيد كذلك من علاقاته مع القيادات الفلسطينية التي استقبلها قبل أشهر في العاصمة التركية في إطار جهود المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية ومن تحسين العلاقات التركية مع تل أبيب والقاهرة في العام الأخير والتي كانت ستترجم قريبا إلى زيارات متبادلة تعزز التعاون والتنسيق الثنائي والإقليمي.

تركيا رغم تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التصعيدية "ليست حربا بل مجازر ترتكب"، تحاول ألا تفرط بالجهود التي بذلت على خط أنقرة – تل أبيب لتحسين العلاقات السياسية والتجارية وحماية خطط التنسيق الاستراتيجي مع الجانب الإسرائيلي بطابع إقليمي. ومصر التي طبعت باكرا مع إسرائيل يهمها إبقاء الأمور هادئة على الجبهات المحيطة بها وهي تحظى بالدعم والتأييد العربي بهذا الاتجاه. فلماذا لا تتسع رقعة التنسيق والتعاون بين أنقرة والقاهرة للتعامل مع مخاطر وارتدادات ما يجري؟

ما الذي سيبحثه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مع الجانب المصري؟ وهل هناك ملامح عرض مشترك تسهم السعودية وقطر والإمارات والأردن في صناعته نتيجة علاقات هذه الدول ودورها المؤثر في الملف؟

المسألة تحتاج طبعا إلى ما يشبه المعجزة ومخيلة كبيرة قادرة على تسجيل اختراق سياسي وأمني يرضي طرفي الصراع وسط كل هذا التصعيد المتزايد، وتمسك إسرائيل بعمليتها البرية ضد غزة، وحيث يتساءل الإعلام الإسرائيلي مثل "جيروزلم بوست"عما إذا قد حان موعد احتلال غزة. هناك طبعا عرقلة أميركية – إيرانية لهذه الجهود، بلينكن يأتي وعبد اللهيان يذهب بهدف الحشد والتعبئة. الأهداف بالنسبة للطرفين تختلف لناحية تأجيج الجبهات والرغبة في تجيير ما يجري إلى تصفية حسابات إقليمية أوسع. وقد يخرج أحدهما جريحا متضررا، خصوصا وأن سيناريو الحرب بالوكالة قد يتحول إلى مواجهة عسكرية مباشرة في أية لحظة. ما يقلق أنقرة والعديد من العواصم العربية هو خروج واشنطن وطهران من المشهد أكثر قوة في الإقليم على حساب الكثير من دول المنطقة تماما كما حدث في المشهد العراقي قبل عقدين.

هناك تكتم شديد في صفوف العواصم التي تقود الوساطة. كيف يتم التواصل وإلى أين سيتوجه فيدان بعد العاصمة المصرية؟ وهل سنرى طاولة تنسيق موسعة تحضر لخطة تنفيذ المتفق عليه على مراحل؟ وهل ستشمل تفعيل مشروع سياسي أوسع يعني غزة والضفة الغربية وينهي الانسداد في تنفيذ القرارات الأممية؟ من سيدعم هذه الجهود غربيا. هل يكون الأمين العام للأمم المتحدة الضامن الجديد كما حدث وقتها في اتفاقية الحبوب الروسية الأوكرانية؟

المؤكد حتى الآن أن هدف هذا التنسيق والتعاون السداسي هو رسم خارطة متعددة الجوانب تنفذ بشقها الأمني والإنساني والسياسي على مراحل: إقناع الأطراف بقرار وقف إطلاق النار. التراجع عن التصعيد العسكري. دفع تل أبيب للتخلي عن سيناريو العملية البرية في غزة، تسهيل عملية تبادل الرهائن والمحتجزين المدنيين. حماية المدنيين وتسهيل فتح الممرات الإنسانية العاجلة باتجاه معبر رفح. تسهيل وصول المساعدات الغذائية إلى القطاع. الحؤول دون اتساع رقعة المعارك وانتقالها إلى جبهات جديدة. فتح الطريق أمام طرح خطة سياسية تحرك الجمود في جهود التوصل إلى سلام شامل وعادل بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.

هل ستبقى أنقرة على موقفها في إطار محاولات التوسط والتهدئة؟

هذا مرتبط بقدرة واشنطن وطهران على العرقلة أولا. والتصلب الإسرائيلي ثانيا واتساع رقعة القتال ثالثا.

هل ستتوتر العلاقات التركية الأميركية أكثر مما هي متوترة بسبب طريقة تعامل واشنطن مع المسألة؟

هذا مؤكد إذا ما شعرت أنقرة أن إدارة بايدن بالتنسيق مع الجانب الفرنسي تحديدا يبذلان جهودا لعرقلة تحركها. الانحياز المبكر إلى جانب إسرائيل وقرار تحريك السفن الحربية باتجاه المنطقة رسالة أميركية متعددة الأهداف والجوانب وتعني تركيا أيضا، لذلك رأينا ردة الفعل الشديدة من قبل أردوغان وهاكان فيدان وعمر شليك.

هل سيؤدي التصعيد المتزايد إلى تقارب تركي روسي صيني أوسع في المنطقة؟

هذا بين الاحتمالات أيضا خصوصا إذا ما وقعت المواجهة الأميركية الإيرانية المباشرة وقررت واشنطن تفعيل المادة الخامسة من ميثاق الحلف التي تحتم وقوف الدول الأعضاء إلى جانب بعضها البعض في حال تعرضها لعدوان. القوات الأميركية تحارب في الشرق الأوسط فهل يعتبر ذلك دفاعا عن أراضيها أو عن النفس مما يستدعي دعم الأطلسي لها وبالتالي الدفاع عن إسرائيل في مواجهة إيران؟

يقول السناتور الأميركي ليندسي غراهام "أنا متضامن مع إسرائيل وعليكم مساواة غزة بالأرض". ويقول لنا رئيس الوزراء الهندي ناريدرا موندي، الذي يطمح للعب دور استراتيجي دولي في ممر التجارة المنافس للمشروع الصيني "الشعب الهندي يقف بحزم إلى جانب إسرائيل". نماذج الشجاعة المبكرة في تحديد المواقف تأتي موجعة أيضا خصوصا أن البعض يحتمي بالبرغماتية ويرفع شعار التهدئة والمنطق في التعامل مع ما يجري.

هل يكون لهذه الجولة الجديدة من المواجهة أي تأثير إيجابي على مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يدفع الجانبين نحو التهدئة والذهاب إلى تفاهمات سياسية تنهي المعاناة وتعطي الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة؟ أم أن تل أبيب ستتمسك بعقدة التفوق والاستعلاء وتواصل سياسة التفتيت بين فلسطينيي الداخل وتحريك أوراق الحصار والتهميش واللجوء إلى تنفيذ ما تدعو إليه "جيروزلم بوست"؟

نجاح التحرك التركي المصري الذي تسهم الرياض وعمان والدوحة وأبو ظبي في صناعته ضروري جدا جدا جدا، لأنه سيسقط أكثر من مشروع وسيناريو ويقلب المعادلات والتوازنات الإقليمية باتجاه آخر.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس