ترك برس

تناول مقال للخبير والإعلامي التركي طه قلينتش، تحليلًا تاريخيًا وسياسيًا لمسار نشوء جماعة "حزب الله"، وتحوّله إلى قوة محورية في لبنان، انطلاقًا من الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وما تلاه من حصار بيروت وتداخل الاحتلالات الإسرائيلية والسورية في الساحة اللبنانية.

ويركّز الكاتب في مقاله بصحيفة يني شفق على الكيفية التي أسهمت بها هذه الظروف، إلى جانب الحرب الأهلية والانقسامات الطائفية، في ترسيخ نفوذ الحزب ومنحه شرعية شعبية وسياسية متنامية، تعززت بعد حرب 2006.

كما يناقش إشكالية سلاح حزب الله في الحاضر اللبناني، موضحًا أن الدعوات لنزعه تصطدم بواقع أمني وسياسي معقّد، في ظل استمرار الاعتداءات الإسرائيلية وغياب الاستقرار الداخلي. ويخلص إلى أن وجود الحزب وسلاحه ليسا مجرد خيار داخلي، بل نتيجة مباشرة لمسار طويل من الصراع الإقليمي.

وفيما يلي نص المقال:

لقد شكل الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982، وما تلاه من حصار لبيروت وتدخل فعلي في أتون الحرب الأهلية، نقطة تحول مفصلية، ليس في تاريخ لبنان فحسب، بل في التاريخ المعاصر للشرق الأوسط برمته. لقد أدى الاحتلال الإسرائيلي إلى تقويض قدرة لبنان على النهوض من جديد، وهو الذي كان يرزح أساساً تحت وطأة الدمار والفوضى العارمة. وبينما اجتاحت إسرائيل لبنان بذريعة دعم حلفائها المسيحيين في صراعهم ضد فصائل المقاومة الفلسطينية، كانت تتقاطع في المصالح مع قوة احتلال أجنبية أخرى تشاركها هدفاً مشتركاً آنذاك: "سوريا بقيادة حافظ الأسد". واستمر الاحتلال الإسرائيلي ثمانية عشر عاماً حتى انسحابه عام 2000؛ وبفي المقابل، ظلت سورية -التي غزت لبنان عام 1976 لقمع منظمة التحرير الفلسطينية وحركات المقاومة الأخرى- موجودة فعلياً في البلاد حتى عام 2005.

وكان من أبرز نتائج الحصار الإسرائيلي لبيروت تأسيس تنظيم حزب الله الشيعي بدعم من إيران. ففي ظل الأرضية الزلِقة التي فرضتها أجواء الحرب الأهلية، حيث كانت التحالفات والاصطفافات تتبدّل باستمرار، نجح حزب الله فيكسب تأييد شعبي واسع. وعندما تقرّر، بموجب اتفاق الطائف الموقَّع عام 1989 والذي أنهى الحرب الأهلية، أن تقوم جميع القوى «غير النظامية» داخل لبنان بتسليم أسلحتها إلى الدولة، وأن تتولى المؤسسات الرسمية وحدها مسؤولية الأمن، كان حزب الله بطبيعة الحال مشمولًا بهذا الإطار. غير أنّ عجز لبنان عن بلوغ الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتفاقم الانقسامات بين الطوائف والمكوّنات الدينية والإثنية المختلفة، ولا سيما الجسور التي أقامتها إيران عبر البوابة الشيعية، مكّنت حزب الله من الحفاظ على نفوذه في المرحلة الجديدة.

وعندما اغتيل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري عام 2005، كان حزب الله هو "المشتبه به الرئيسي". غير أنّ الهجوم الإسرائيلي على لبنان عام 2006، الذي أعقب ذلك مباشرة، أعاد إلى التنظيم شعبيته، وأدّى إلى تعليق الاتهامات الموجّهة إليه، ومنحه دعمًا واسعًا على مستوى العالم الإسلامي. كما اصطفّ المسيحيون اللبنانيون، على نحوٍ شبه موحّد، إلى جانب حزب الله. وتُعدّ المغنّية اللبنانية المارونية العالمية الشهيرة جوليا بطرس نموذجا بارزا في هذا السياق.

وُلدت بطرس لأب عربي من جنوب لبنان وأمٍ فلسطينية أرمنية، واشتهرت في ثمانينيات القرن الماضي بأغانٍ مثل "غابة شمس الحق" و"وين الملايين؟"، إلا أن انطلاقتها الكبرى كانت من خلال أغنية منفردة أصدرتها في خريف 2006 بعنوان "أحبائي". واستلهمت كلمات الأغنية من رسالة وجهها زعيم حزب الله حسن نصر الله إلى عناصر المنظمة الذين يقاتلون إسرائيل، وكانت تفيض بعبارات الثناء والتمجيد للحزب. وبفعل الأجواء السائدة في تلك الفترة، لم تقتصر شهرة الأغنية على تجاوز الحدود ومنح "جوليا بطرس" شهرة فائقة فحسب، بل مهدت الطريق لزوجها "إلياس بو صعب" ليتسلق السلم السياسي في لبنان الذي يهيمن عليه نفوذ الحزب، ليتنقل بين وزارتي التربية والدفاع، وصولاً إلى منصبه الحالي كنائب لرئيس مجلس النواب.

واليوم، يتصدر ملف "نزع سلاح حزب الله" واجهة الأجندة السياسية في لبنان. ويعد هذا الملف الشرط الأبرز الذي فرضه اتفاق وقف إطلاق النار المبرم مع إسرائيل العام الماضي؛ غير أن حل هذه المعضلة لا يمكن بهذه السرعة أو السهولة. فرغم الاستنزاف الكبير الذي تعرض له الحزب، لا سيما في العامين الأخيرين، إلا أنه لا يزال يمثل إحدى أهم الحقائق السياسية والاجتماعية في لبنان. ومع وصول الانقسامات الداخلية إلى مستوى من التوتر يشبه أجواء ما قبل الحرب، يبدو سيناريو تخلي الحزب عن سلاحه ببساطة بعيدا كل البعد عن الواقع. وعلاوة على ذلك، وفي ظل استمرار إسرائيل بضرب لبنان متى شاءت دون رادع، يرى قطاع غير قليل من اللبنانيين أن بقاء سلاح الحزب ضرورة لا غنى عنها.

لقد هيأت إسرائيل بنفسها الظروف التي سمحت بولادة حزب الله، واليوم تزعم ضرورة استئصال الحزب الذي تغلغل على مر السنين في كافة مفاصل الدولة اللبنانية. ورغم أن الحزب يبدو اليوم في حالة ضعف، إلا أنه طالما استمرت إسرائيل في عدوانها المستعر كـ "كلب مسعور"، فسيظل من المستحيل محو ظل حزب الله من هيكلية الجيش، والأمن، والاقتصاد، والحدود، والاستخبارات، فضلاً عن الحياة الاجتماعية والسياسية.

وفي الواقع، تبدو المعادلة بسيطة وجلية كما يعرفها الجميع: متى يُجبر حزب الله على التخلي الكامل عن سلاحه؟ حين ترفع إسرائيل يدها تماماً عن لبنان.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!