محمود عثمان - خاص ترك برس

الـ"سفربرلك"، كلمة عثمانية كثيرًا ما سمعناها من أجدادنا الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى، وهي تعني النفير العام، حيث كان العثمانيون يعلنون النفير العام قبيل كل معركة كبيرة ذات بعد استراتيجي، وكانت ترافق تلك الاستعدادات العسكرية اتصالات سياسية ودبلوماسية لتحييد الخصم وعزله من جهة، وتوفير غطاء من الشرعية الدولية لتلك المعركة.

تركيا الدولة الإقليمية  بقيادة حزب العدالة والتنمية من خلال - الـ"سفربرلك" - حملتها العسكرية الأخيرة تمكنت من استعادة زمام المبادرة وقلب الطاولة على رؤوس كثير من القوى - على رأسها إيران - التي ظنت أن الميدان قد خلا لها وأن بإمكانها فرض واقع جديد في ظروف استثنائية تمر بها المنطقة.

كما هو معروف فإن ثورة الخميني اعتمدت على مبدأ تصدير الثورة منذ أيامها الأولى، والذي ترجم على أرض الواقع مشروعا توسعيا هدفه النهائي إدخال منطقة الشرق الأوسط تحت سيطرته ونفوذه، من خلال شعارات كبيرة تدغدغ عواطف الشعوب الاسلامية كدعم القضية الفلسطينية وتحرير القدس والأقصى والصمود في وجه إسرائل والصهيونية والتصدي للمشاريع الأمريكية إلخ.. لكنها كانت تخفي تحتها عباءتها استرتيجية اللعب على الوتر الطائفي والتناقضات المذهبية والعرقية لتغذية الفرقة وبذر الفتنة من جهة، ودعم المنظمات الإرهابية وحركات التمرد من جهة أخرى.

صحيح أن الحملة العسكرية التركية استهدفت المنظمات الإرهابية وعلى رأسها حزب العمل الكردستاني وتنظيم داعش والحزب الشيوعي الثوري وغيرها من التنظيمات الصغيرة الأخرى لكنها في واقع الحال أصابت المشروع الإيراني في مقتل، لأن هذه المنظمات الإرهابية تشكل العصب الحساس للمشروع الإيراني وأحد أهم أدواته الأساسية.

من هنا تكررت الانتقادات الإيرانية من أعلى المستويات وعلى لسان أكثر مسؤول، وفي هذا الإطار بالتحديد جاءت انتقادات فيروز أبادي رئيس هيئة الأركان الإيرانية فيما أسماه "استهداف تركيا للأكراد"، وأنّ "الأكراد يقاتلون أخطر منظمة على وجه الأرض وهي داعش"، وأن "إضعاف الأكراد يعني تقوية داعش، وهذا سيشكل خطرا إضافيا على تركيا"!.

وفي السياق ذاته يأتي تصريح علي أکبر ولایتی مستشار الزعيم الروحي الإيراني خامنئي بأن "أمن سوریا ووحدة أراضیها وسیادتها جزء لا یتجزأ من أمن الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة، سواء فی مواجهة التدخل السعودی الخلیجی... أو العثماني"! وهنا لا بد من وضع خط تحت كلمة عثماني.

كما كشف موقع ويكيليكس عن وثائق سرية تفيد بأنّ إيران دفعت بشار الأسد للتعاون مع تنظيم حزب العمال الكردستاني وعقد اتفاقيات استراتيجية ضدّ تركيا. كما كشف الموقع عن وثائق تثبت عقد عدّة لقاءات سرية بين قيادات في حزب العمال الكردستاني وعدد من مسؤولي النظام السوري بهدف منح الأكراد منطقة حكم ذاتي في شمال سورية.

كما كشف المصدر نفسه عن تآمر الذراع المدني لحزب العمال الكردستاني في العراق مع إيران من أجل اسقاط الرئيس مسعود برزاني، بينما ذراعه السوري المتمثل بحزب الاتحاد الديمقراطي يتحرك بالتعاون مع نظام الأسد وتحت حماية إيران.

الإيرانيون لا يخفون غضبهم من الحملة العسكرية التركية , لكنهم بنفس الوقت لا يستطيعون فعل شيء، لأن هذه الحملة جاءت ثمرة ونتيجة لتفاهمات دولية أكسبتها شرعية دولية لا جدال فيها، بينما جميع نشاطات إيران لا زالت تصنف حسب قاموس القوانين الدولية في خانة دعم الإرهاب ومنظماته، ومساعدة الدول التي ترتكب جرائم حرب ضد الإنسانية. إذ لا يزال الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس، وحزب الله اللبناني وغيرها مصنفة على قوائم الإرهاب.

وهنا قد يسأل سائل: لماذا لا تنعكس هذه التصنيفات على أرض الواقع حاليا؟ ولماذا يتم غض الطرف عن نشاطات هؤلاء الإرهابية؟!.. نعم الوضع الدولي وتركيبة منظومة الأمم المتحدة لا تسمح بذلك الآن. لكن الأيام دول وسيأتي يوم يحاسب فيه مرتكبوا جرائم الحرب إن عاجلا أم آجلا لأنه ما من جريمة حرب ارتكبت إلا حوكم مرتكبوها ونالوا عقابهم، من رواندا إلى البوسنة وغيرها كثير.

مقابل ذلك نجد أن تركيا أعدت خططاً ورسمت استراتيجيات لمحاربة التنظيمات الإرهابية تتناسب مع الظرف السياسي العام ومتطلبات المرحلة، فلم تبدا الحرب على داعش إلا عندما ضمنت الغطاء الدولي من جهة، وتمكنت من إقناع الأمريكان ترك الانتقائية التي يفرضونها في موضوع محاربة الإرهاب بالبدء بتنظيم داعش أولاً كشرط أساسي لمحاربة من سواه، فساوت بين جميع أنواع الإرهاب إذ لا إرهاب سيئاً وآخر مقبولاً.

"سفربرلك" تركية جديدة يبدو أنها تسير على خطى "سفربرلك" السلطان العثماني سليم الأول الذي أعاد الأمور إلى نصابها عقب تغول اسماعيل شاه الصفوي الذي تحالف مع المتمردين الكرمانيين حتى وصل تخوم أنقرة بينما كانت الجيوش العثمانية تفتح البلقان بلدا بلدا، فاستغل انشغالهم بالجهاد والفتوحات ليطعن الدولة العثمانية من الخلف وليظهر في الأرض الفساد تماماً كما يفعل أحفادة اليوم.

ربما لن تتكرر جالديران على شكل مواجهة عسكرية مباشرة بين تركيا وإيران، لكن المواجهات غير المباشرة ستستمر إلى أن تعود الأمور إلى نصابها كما هي بعد جالديران الأولى.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس