ترك برس

أصبح واضحًا للجميع، عقب إسقاط الطائرة الروسية، وبلا أدنى شك أن هناك نقاط خلاف كبيرة بين تركيا وروسيا في سوريا، فقد سلطت عملية إسقاط الطائرة الضوء على التنافس التركي الروسي الضمني في سوريا ليظهره على السطح ويُبرز تفاصيله بشكل واضح.

بعد اختراق طائرة روسية الحدود التركية ورفضها الاستجابة للتحذيرات التركية قامت القوات العسكرية التركية بإسقاط طائرة. وأفاد رئيس الوزراء التركي "أحمد داود أوغلو" بأن: "استهداف الطائرة جاء في إطار قواعد "الرد بالمثل" التي تم تفعيلها من قبل البرلمان التركي عام 2012، إبان إسقاط الطائرة التركية من قبل القوات السورية، وقواعد "الاشتباك المتعمد" التي تم تفعيلها والإعلان عنها غداة الاختراق المتكرر للأجواء التركية من قبل الطيران الحربي الروسي".

وأعلنت قيادة التحالف الدولي ضد الإرهاب أنها استطاعت التقاط التحذيرات المتكررة التي قامت بها القوات التركية، لدعوة الطائرة الروسية لتغيير مسارها، وأوضحت قيادة التحالف أنها تمكنت من تسجيل ترددات الصوت الخاصة بتلك التحذيرات.

التدخل الروسي في القضية السورية في آب/ أغسطس الماضي، فتح صفحة جديدة للعلاقات التركية الروسية، بعد هذا التدخل اخترق الطيران الروسي الأجواء التركية أكثر من مرة، وردًا على ذلك قامت القوات التركية باختراق الساحة الجوية لأرمينيا لمدة 5 دقائق بواسطة طائرات الهليكوبتر، ويعود اختراق تركيا للمجال الجوي الأرمني إلى أهمية أرمينيا كحليف استراتيجي لروسيا.

وحسب ما يشير إليه الباحث السياسي المُختص في مجال العلاقات الخارجية التركية "نزيه أونور كورو" في مقاله "الأسباب الأساسية للخلاف الروسي التركي في سوريا"، فإن تركيا اضطرت إلى استهداف الطائرة الروسية المخترقة لأجوائها السيادية، لتمادي روسيا في ذلك، وعدم اكتراثها بالطلب التركي الخاص بإيقاف هجماتها الشديدة على جبل التركمان، وذلك لتعرض الحكومة التركية لضغط شديد من الرأي العام التركي، نتيجة لاعتبار المواطنين الأتراك التركمان إخوة دم لهم.

وعلى الرغم من اتهام تركيا بالتعمد في إسقاط الطائرة الروسية من أجل افتعال أزمة بين الناتو وروسيا، إلا أن القيادة التركية أكدت أن ليس لها أي مأرب متعلقة بذلك، والقوات التركية إنما قامت  بواجبها الوطني تجاه السيادة الوطنية لتركيا.

وحاول المسؤولون الأتراك استيعاب الأزمة بأسلوب دبلوماسي لبق وبعيد عن المشادة الكلامية خاصة مع الرئيس بوتين الذي لم يزخر بنفس الدبلوماسية التي تمتع بها المسؤولون الأتراك، إذ ظهرت على السطح تصريحات روسية تصعيدية وعادت وسائل الدعاية السوداء في روسيا وخاصة صحيفتي "برافدا" و"كرازناي زفرداء" المشهورتين بإنتاج الدعاية السوداء المستهدفة للخصم الروسي منذ الحرب العالمية الثانية، إلى رأس عملهم مستهدفين في هذه الكرة تركيا وحكومتها.

وكان إلغاء وزير الخارجية الروسي "سيرغي لافروف" لزيارته المزمعة في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر، وتحذيره للسياح الروس من مغبة الذهاب إلى تركيا لوجود خطر على حياتهم دليل على توجه روسيا للتصعيد.

وبتدهور العلاقات الاقتصادية والسياسية بين روسيا وتركيا يمكن القول إن فصل العلاقات "التجزيئية" "بمعنى انفصال العلاقات الاقتصادية عن المواقف السياسية" قد انتهى وأصبحت تحتاج إلى فترة طويلة لتعود إلى حالها السابق وتتعافى. العلاقات بين روسيا وتركيا اتسمت بالتجزئة منذ 20 عامًا، إذ كانت المواقف السياسية لتركيا وروسيا منفصلة تمامًا في العديد من القضايا السياسية العالقة في المنطقة على رأسها قضايا الشيشان وجورجيا وأوكرانيا وسوريا، ومشوبة بخلاف كبير بين الدولتين.

ولكن على الرغم من الخلاف في المواقف السياسية لكلا الطرفين، إلا أن الحجم التجاري بين الطرفين جعل منهما شركاء اقتصاديين بدرجات عالية، حيث أصبحت روسيا الشريك التجاري الثاني لتركيا بعد الاتحاد الأوروبي وأصبحت تركيا الشريك الثاني لروسيا بعد ألمانيا، ويبدو أنه بعد الأزمة الأخيرة سينخفض حجم التبادل التجاري بين الطرفين بشكل كبير، لا سيما في ظل استمرار التحذيرات الروسية للتجار والسياح وأصحاب العقارات الروس من عدم الذهاب إلى تركيا وعدم التعاون مع رجال أعمالها.

وفي ظل هذا التماحك الروسي في فرض العقوبات الاقتصادية على تركيا، يُتوقع أن تقوم روسيا بإلغاء مشروع خط "السيل التركي" الذي وُقعت اتفاقيته بين الطرفين في آب/ أغسطس الماضي من أجل نقل الغاز الروسي إلى شرق أوروبا عبر تركيا، وإذا تم إلغاء هذا المشروع يصل التوتر الروسي التركي الاقتصادي إلى أوج ذروته.

هذا ما يخيم على العلاقات الاقتصادية، أما الرد العسكري الروسي على إسقاط الطائرة تمثل في استهداف الطيران الروسي للقوات التركمانية المعارضة في جبل التركمان، وقوات المعارضة السورية المعتدلة في كافة أرجاء سوريا بجنون ودون تفريق بين المدنيين والعسكريين.

وتعود الأسباب الرئيسية لدعم روسيا سوريا بشكل يجعلها تأخذ بعين الاعتبار كافة الاحتمالات، من أجل المحافظة على سوريا خاضعة وتابعة لها إلى عدة عوامل هي كالتالي:

ـ سوريا هي أخر قلعة للسيطرة الروسية على منطقة البحر الأبيض، فروسيا تحتاج هذه القلعة للإبقاء على كيانها الرادع في منطقة الشرق الأوسط قائم بدوره في ردع الدول القريبة للغرب وجعلها تحذر من معارضة المصالح الروسية حول العالم.

ـ وكما تحتاج روسيا إلى هذه القلعة لاستخراج الغاز المتواجد بكثافة في حوض البحر الأبيض، وهذا مايمثل مخزون طاقة حيوي لروسيا التي تعاني من حالة تدهور شديد في الوضع الاقتصادي.

ـ  إقامة دولة كردية في شمال سوريا خاضعة لروسيا، هذا السبب حديث الميلاد، إذ رأت روسيا فيه أهمية كبيرة من أجل المحافظة على منطقة شمال سوريا، خاصة بعد حالة الضعف الجسيمة التي أًصيب بها النظام وقواته.

أما بالنسبة لتركيا فأهمية سوريا تتجلى بالشكل التالي:

ـ الأمن والاستقرار:تعيش تركيا اليوم في وضع لا يحمد عليه من ناحية عدم الاستقرار، وذلك لفراغ الحدود التي تصل بينها وبين تركيا من الحماية الأمنية الجيدة من الطرف السوري، وتتفاقم خطورة هذه الحالة في ظل الطول الكبير للحدود التي يبلغ طولها 950 كيلو متر، وهناك بعض المناطق التي تشكل خطر أكبر على الأمن التركي وهي منطقة الرقة وجرابلس وأعزاز المتخامة لعدد من المدن التركي مثل غازي عنتاب وكاركاميش وكيليس، والتي تحتضن فوقها جماعة "داعش"، هذا الخطر الجسيم يدفع تركيا إلى الحرص على إقامة منطقة آمنة تُدار من قبل قوات التحالف الدولي للحفاظ على أمنها واستقرارها، وهذا ماتعارضه روسيا بشدة. كما أن تأسيس الدولة الكردية في شمال سوريا، يُعتبر تطور خطير ووخيم على تركيا القلقة من هذا التطور خشية انتقال أثاره المُحفزة لحزب العمال الكردستاني "المُتمرد" في تركيا.

ـ دعم الثورة وإقامة نظام ديمقراطي: على المدى الاستراتيجي ترى تركيا أن النظام الديمقراطي هو النظام الوحيد القادر على إرساء دعائم الأمن والاستقرار والحريات والعلاقات الجيدة بينها وبين سوريا، لذا تحرص تركيا على دعم الثورة والجماعات الثورية في سوريا. دعم تركيا يشكل خطر على مصالح روسيا، ومصالح روسيا في المنطقة تشكل خطر على المصالح التركية، وهذه يولد نقطة خلاف رئيسية بين الطرفين.

ـ تُعتبر سوريا الممر الرئيس الواصل بين تركيا وبلاد الوطن العربي الأخرى، إلى جانب سوريا يوجد العراق كممر واصل بين تركيا وبلاد الوطن العربي، ولكن الأكثرية السنية التي يمكن أن تتولى مقاليد الحكم عقب نجاح الثورة السورية، تدفع تركيا إلى التعويل على إعادة مد جسرها التجاري عبر سوريا كبديل للعراق الذي أصبح تابعة لإيران بشكل ملموس.

هذه النقاط المحورية التي تمثل نقاط الخلاف الجذرية بين تركيا وروسيا، كان الطرفان يتمتعان بعلاقات اقتصادية قوية ونوعية، ولكن في ظل "الخلاف الشديد والجذري" بين الطرفين، كان استمرار هذه العلاقات مستحيل في ظل هذه الخلافات الكبيرة، وهذا ما ألت إليه هذه العلاقات في نهاية المطاف، على حد وصف الباحث السياسي  والمختص في مجال النزاعات الدولية "نزيه تونج".

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!