د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

بعد مدينة تونس ربّما تكون مدينة صفاقس أكثر المدن ذكرًا في المصادر التّركية التي تحدثت عن تاريخ هذه المدينة، سواء كانت هذه المصادرُ وثائق أو صحفًا أو مجلات أو مخطوطات أو غيرها. ولا شكّ أنّ الشّجاعة التي أبداها الأهالي هناك في مقاومة المعتدي الفرنسي، ورفضهم الاستسلام لهذا المحتل وتشبّثهم بموالاة الحكومة العثمانية في إسطنبول التي تمثل رمز المسلمين ووحدتهم هو الذي بوّأها مكانة لائقة جعلت التّاريخ يحتفظ لها بكل هذا الزخم من الذّكــر.

يوما بعد يوم يمدّنا الأرشيف التّـركي بمعلومات جديدة وتفاصيل أكبر حول هذه المدينة المناضلة، وحول طبيعة الأهالي والأعيان والوُجهاء هناك. فالتّاريخ لم يكن ليحتفظ لنا بشيء من الوثائق لو أنّ المدينة استسلمت بسرعة وأسلمت أمرها بسهولة عندما وصلت إليها جحافل الجيش الفَرنسي سنة 1881م. لقد قاوم الأهالي وبذلوا كل ما في وسعهم من الجهد، وكان الحماس متوقّدًا في كل مكان من المدينة. كان عدد المقاومين نحو 15 ألف فرد، وكانوا مسلحين بأسلحة تقليديّة وثقة عظيمة في النفس بالنّصر. وقد نقل لنا تلغراف مرسل إلى صحيفة ترجمان الحقيقة بتاريخ 17 تموز/ يوليو سنة 1881م صورة عما كان يتحلّى به المقاومون من شجاعة: ""إنّ عدد المقاومين في صفاقس وما حولها نحو 15 ألف، ومن الصّعب الاقتراب من هذه الأماكن بسبب شدة المقاومة. والدّعوات متتالية لمزيد إرسال القوات العسكرية إلى هذه المدينة. إنّ عمليات سفك الدّماء في صفاقس ما تزال مستمرة، وقد قامت المدافع الفرنسيّة بدكّ المنازل في هذه المدينة من بعيد".

كان المحتل الفرنسي عازمًا على الاستيلاء على المدينة مهما كان الثّمن، ولذلك دكّ المدينة بضربها من البواخر في البَحر بشراسة، وبعد دخول أفراد الجيش إلى المدينة لم يرحموا صغيرا ولا كبيرًا، امرأة لوا شيخًا، كما لم تمنعهم قيم "الحرّية" التي يزعمون أنهم يريدون نشرها من هتك الأعراض واستباحة الدّماء. لقد صورت لنا العريضة التي أرسلها 49 من كبار وجهاء وأعيان صفاقس- حاملةً أختامهم وأسماءهم - إلى السّلطان العبد الحميد الثاني (1876-1909م) ممارسات الجيش الفرنسي الفظيعة بحقّ الأهالي فقد "خرّبُوا البلاد وأكثروا فيها الفساد، وقتلوا النّساء والبنين، وهتكُوا أعراض المسلمين"[1]. ولم يكتف الفرنسيون بالتخريب والإفساد وسلب الأموال بل عمدوا كذلك إلى فرض ضريبة قدرها عشرة ملايين من الفرنكات مع أن "البلاد لو بيعت بما فيها ومن فيها لم تساو عشر المبلغ المذكور"[2]. وقد حدث كل ذلك بإشارة من الوالي محمد الصادق باي لما بلغه اعتراف الأهالي بالتبعية للدولة العلية كما جاء في العريضة.

عدد قليل من الأهالي أمكنهم الفرار "والباقون بها لم يزالوا في أسوأ الأحوال ومقاسات الأهوال". وعندما ضاق الحال بالأهالي واشتد عليهم الأمر ولم يجدوا خلاصا من هذا البلاء الذي حل بهم بادروا بإرسال عريضة إلى السّلطان العثماني لينظر في أمرهم، وهم يلتمسون إنقاذهم مما هم فيه من الويلات إذ لا طاقة لهم بسبب قلة عددهم وعدّتهم. ومن الجدير أنّ الموقّعين على العريضة ينتمون إلى عائلات عريقة في مدينة صفاقس. ومن بين هذه العائلات عائلة: الجاموسي والميلادي و الزّحاف والفخفاخ والمصمودي والعيادي وذويب والسماوي والطرابلسي والمعلول والحصايري وكمون والشرفي وشقرون والقرقوري والعياشي والشعبوني وملاك والشّعري والمزغني والهنتاتي. وهذا يفيد بأن دائرة الرفض للمحتل وللوالي كانت واسعة جدا بحيث شملت أغلب الأسر المعروفة في مدينة صفاقس.

وبالفعل تم تقديم العريضة إلى السّلطان في اسطنبول، وذكر تقرير مؤرخ بتاريخ 8 ربيع الأول سنة 1299هـ/ الموافق لـ 28 كانون الثاني/ يناير سنة 1882م أنّ عبد الحميد حزن شديد الحزن بسبب ما حلّ بأهالي صفاقس المسلمين، سواء بسبب الظلم والتّخريب أو بسبب ما فُرض عليهم من عقوبات مالية قاسية، وطلب من الحكومة تدارس الموضوع من جميع جوانبه واتخاذ الإجراءات الضّرورية في هذا الخصوص[3]. غير أننا لم نعثر على وثائق أخرى تفيدنا بطيعة الإجراءات التي اتخذت من قبل الحكومة.

ونورد هنا نصّ العريضة باستثناء قسم الحمد والثّناء والتمجيد، وهو وثيقة مهمّة ونادرة بالنّسبة إلى الباحثين في تاريخ مدينة صفاقس زمن الاستعمار الفرنسي، وقد كُتبت بلغة عربية واضحة وسلسة، كما نرفق النّص بصورة من العريضة، وهي تحمل أختام أعيان صفاقس ووجهائها وأسماءهم، ويمكن بسهولة قراءة هذه الأسماء والتّعرف عليها.

"(...) أمّا بعد، فالمعروض على شريف مسامع دولته مولانا أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين الآمر بالمعروف وبإسعاف الملهوف أن مقدّمي هذا لأعتاب مراحم سلطنته السّنية وشهامة شوكة دولته القوية عبيده المذكورة أسماؤهم فيه أدناه عن أنفسهم وأهل بلدهم مدينة سفاقس التابعة لولاية تونس قد حلّ بنا ما يفتّت الكُبود، وينفطر منه الجلمود، مما دهانا من إطلاق نار مدافع الفرنساوي عدوّنا، وهجوم عسكره واستيلائه على بلادنا، فخرّبوا البلاد وأكثروا فيها الفساد، وقتلوا النّساء والبنين، وهتكوا أعراض المسلمين، وذلك بإشارة من والي تونس لما بلغه اعترافنا بالتبعيّة للدولة العلية. والآن قد فرّ بدينه من أمكنه الفرار من أهل البلاد وهم قليل والباقون بها لم يزالوا في أسوأ الأحوال ومقاسات الأهوال. ثم ما كفاه ما حلّ بنا من سفك دمائنا وسلب أموالنا حتى فرض علينا عشرة ملايين من الفرنكات، مع أنّ بلادنا لو بيعت مع ما فيها ومن فيها لم تساو عشر المبلغ المذكور. وما مراده بذلك إلا اضمحلالنا بل استئصالنا. ولما ضاق بنا القضاء واشتد علينا الأمر ولم نجد منجا من هذا الأسر والقهر بادرنا بعرض حالنا لمراحم دولة مولانا وسلطاننا لينظر في أمرنا وينقذنا من أيدي عدونا، فإنه لا طاقة لنا به لقلة عدَدنا وعُدَدِنا، وليس لنا مجير ولا نصير سوى مولانا الخليفة الأعظم الخاقان المفخم حامي حما بيضة الإسلام الحصن الحصين الذي يلتجي إليه الخاص والعام، فهو الذي قلّده إليه أمر عباده وملكه التصرف في أرضه وبلاده أدام الله نصره وخلّد دولته وأعز كلمته وأعلى سطوته وأبقاه محفوفًا بالتّأييد والتّمكين والظّفر والفتح المبين. آمين.  


[1] الأرشيف العثماني باسطنبول، وثيقة رقم İ. HR 336/21632, LEF 1

[2] الوثيقة نفسها.

[3] الأرشيف العثماني باسطنبول، وثيقة رقم İ. HR 336/21632, LEF 3

 

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس